تنطلق قريبا وتحديدا يوم الجمعة 8 أغسطس/ آب 2008 فعاليات دورة الألعاب الأولمبية التاسعة والعشرين وتستضيفها بكين الصين وتستمر حتى 24 منه.
وستشارك فيها جميع دول العالم بالقارات الخمس (ونأمل أن يكون العراق الشقيق من بينهم) إذ يقدر عدد اللاعبين الرياضيين المشاركين بـ12 ألف متسابق يتنافسون تحت شعار (ONE WORLD OUR DREAM) عالم واحد هو حلمنا. وسيرفع هذا الشعار على لوحة مضاءة في وسط مرح الافتتاح الكبير والذي جسد على شكل سور الصين العظيم طوال عمر الدورة. وتشير المعلومات الأولية الى أن الصين ستبهر العالم بأعظم أولمبياد في التاريخ!
كما أنه وحسب العرف الأولمبي ستتاح المنافسة والتسابق من أجل نيل الميداليات الملونة، أو حصد اكبر عدد منها. ويقدر عدد الميداليات بـ924 ميدالية منها 308 ذهبية، وهذا بيت القصيد؛ لأن الفوز بأي منها يمنح الدولة الفائزة رفع علمها،
وعزف سلامها الوطني تحت رهبة الموقف ودموع الفرح للبطل معبرة عن صدق الانتماء للوطن. ونأمل نحن أهل مملكة البحرين أن نذرف دموع الفرح ولو مرة واحدة، وهذا ليس بالبعيد والصحوة الرياضية قد بدأت بفضل توجيهات القيادة الحكيمة.
وما دمنا في هذا السياق، فقد كان لي شرف حضور فعاليات دوره الألعاب الأولمبية بالمكسيك العام 1968، والدورة الأولمبية بكندا العام 1976، وتوجت هذه المشاركات بحصولي على شهادة أولمبية عليا وميدالية تذكارية ممنوحة من اللجنة المنظمة العليا بدورة لوس أنجليس الأميركية العام 1984؛ للمتابعة الدقيقة والتفاعل مع رجال الإعلام بمركز المعلومات.
ما أشبه الليلة بالبارحة!
نعم، بل وما أشبه اليوم بالأمس، فقد كتبت مقالا قبل 44 عاما وأنا طالب بكلية التربية الرياضية بالقاهرة بعنوان: «الدورات الأولمبية ومغزاها عبر التاريخ» وكان الدافع من ذلك هو قرب دورة طوكيو الأولمبية العام 1964، واليوم يستحق هذا الموضوع نشره على نطاق أوسع، فالهدف واحد وهو قرب دورة بكين الأولمبية 2008. وأعتقد أنه صالح لكل زمان ومكان.
وإليكم الموضوع كما نشر في مجلة «صوت البحرين» التي تصدرها رابطة طلبة البحرين بالقاهرة في عددها الثاني العام 1964:
الدورات الأولمبية ومغزاها عبر التاريخ
لقد تجلت في حاضرنا القيم التربوية والصحية والفنية والاقتصادية في أصول التربية الرياضية، وأصبحت من دون جدال من القياسات البارزة لتقدم ورقي المجتمعات الحديثة وتسابقها في صنع الإنسان الاجتماعي الصالح المتكامل في عناصر شخصيته الجسمية والعقلية والنفسية والخلقية. ولقد اخترت هذا الموضوع لتقديمه هنا لإيماني بقدسيته عندي كرياضي، وثانيا لقرب دورة طوكيو الأولمبية للعام 1964، وكل ما أرجوه أن أوفق في طرحه أمام القارئ الكريم بالصورة اللائقة به كبداية خيرة لمواضيع حيوية أخرى تخدم كلا من التربية العامة والرياضة البدنية، ولنشر الوعي الرياضي الخلاق بين شبابنا العربي لانتشاله من غيبوبة التعصب والانحراف والشذوذ، وتهيئته قويا نشيطا للعمل المنتج والإبداع.
نبذة تاريخية
ويجدر بنا أن نقول إن مهرجان الألعاب القومية الأولمبية لدى الإغريق هو أب للمهرجانات والدورات الرياضية على مر الأزمنة. وكانت هذه الألعاب لارتباطاتها بالعقيدة ذات منزلة دينية كبيرة يحتفل بها باسم إحدى الإلهة لما تنطوي عليه من فرائض السلوك والأخلاق وممارسة القوة والشجاعة المدنية. والحقيقة أن إقامة هذه المهرجانات كانت البشير لاستقرار الحياة في بلاد الإغريق أيضا، كما كانت السبب في اضطراب نمو الوحدة والسلام بين قبائلها لقدسية السهل الأولمبي وحرمته عندهم، حتى بلغ من قيمة الألعاب الأولمبية عند الإغريق أنهم كانو يؤرخون بها أقدم الحوادث وأجل المناسبات.
وكان أول ما عقدت فيه هذه الدورات سنة 776 ق. م، ومنها بدأ تاريخ اليونان الرسمي، وعرف عنها أنها كانت تقام مرة كل 4 سنوات - وهذه الفترة كانت تعرف بالأولمبياد - إذ تقام حين ذاك في السهل الممتد بين جبل اولمب، وهرالفيو وتل كرونوس بالقرب من مدينة أولمبياد المقدسة. وفي وسط السهل تقع ساحة «التيس» مقر معبد «الإله زيوس» الأولمبي. وطالما أوحت المباريات الأولمبية إلى المثّالين والمصورين نماذج فنية لا حصر لها، وخصها الشعراء بملاحم تتغنى بمجد الأبطال الرياضيين الذي كان يعلو عندهم إلى عنان سماء الإلهة، ومثل لذلك هيرمس رب الرياضة البدنية عند الإغريق.
الألعاب والبرنامج العام للمهرجان
وبتطلع بسيط للألعاب التي كان يزاولها الإغريق في دوراتهم نرى أنها جاءت عن قصد ودراسة واعية باعتبار هذه الألعاب تلعب دورا كبيرا في تربية المواطنين وإعدادهم للحياة العامة، كما أن مزاولتها والتدريب عليها سبيل للتمتع بقوة بدنية ووسيلة لإعطاء الجسم اللياقة العسكرية التي كانت موضع عنايتهم للظروف المحيطة بهم. ونطرح هنا برنامج الاحتفالات خلال القرن الخامس قبل الميلاد. وفيه تستمر الدورة 5 أيام:
اليوم الأول: وأهم ما كان يحدث في اليوم الأول هو تقديم القرابين وتأدية القسم.
اليوم الثاني: وكان يبدأ بسباق العربات ذات الأربعة خيول وبعده سباق الخيل في المضمار المعد لذلك، وهو عبارة عن ساحة مستطيلة وضع في كل من طرفيها عمود كي يلف حولهما الخيول، وتبلغ المسافة بين العمودين 600 ياردة تقريبا. ويمر قبل البدء بالسباق المحكمون في لباسهم القرمزي تزين الأكاليل رؤوسهم وخلفهم المنادي وقارع الطبل وغيرهما من أعضاء هيئة الاحتفال، ثم المتبارون فالعربات فالخيول.
هذا وبجانب ذلك السباق، مباريات المسابقة الخماسية «بنتالون» وهي تتألف من (1) الجري (2) القفز الطويل (3) رمي القرص (4) رمي الحربة (5) المصارعة. ويعتبرون الفائز في هذه المسابقة جميعها مثال الرياضي الكامل.
اليوم الثالث، وهو يوم اكتمال البدر، فكان أعظم أيام الاحتفال، إذ كانت تقدم فيه القرابين الرسمية على مذبح «زيوس» في مهرجان عظيم وموكب كبير يسير في مقدمته المحكمون والمنجمون والقساوسة يتبعهم المبعوثون الرسميون للولايات الإغريقية، حاملين في أيديهم أواني ثمينة من الذهب والفضة، ومن خلفهم المتبارون فالعربات فالفرسان فالمدربون فالأصدقاء والأنصار.
اليوم الرابع: أما اليوم الرابع فهو يوم المباريات الكبرى، إذ كانت تقام في الصباح مسابقات الجري وبعد الظهر مباريات المصارعة والملاكمة. وكانت هذه المباريات تستغرق اليوم كله، وفي المساء ينصرف الجميع من جديد إلى المرح والرقص والشراب.
اليوم الخامس: وهو اليوم الأخير، وفيه ينقطعون إلى اللهو وأسباب السرور، وبعد أن يقدم المنتصرون نذورا على مذبح الإله «زيوس» يدعون لوليمة كبرى في دار الحكومة، بعدها ينفض الاجتماع ويعود كل إلى بلده.
غصن زيتون
وكان من ينادى به بطلا أولمبيا لفوزه على اقرانه في المباريات يمنح اكليلا من غصن الزيتون جائزة له، ويقام له تمثال في ساحة «التيس».
وبعد الفتح الروماني لليونان اصدر الإمبراطور الروماني «تيودوسيوس» مرسوما بإلغاء هذه الأعياد العام 394 بعد الميلاد.
الدورات الحديثة
ثم نظمت أولى هذه الدورات في العصر الحديث العام 1896 بملعب أثينا. وانبعثت بذلك الدورات الأولمبية في العصر الحديث ورائدها الشعار اللاتيني (Citius - Alius - Fortius) الذي تمثله 5 حلقات متشابكة تتوسط ديباجة العلم الأولمبي الأبيض رمزا للزمالة الرياضية العالمية.
وتتابعت الدورات الأولمبية بعد ذلك، فأقيمت العام 1900 في باريس ثم سان لويس ثم لندن واستوكهولم. وحالت الحرب العالمية الأولى دون قيام الدورة العام 1916. ثم لم تلبث أن توالت 5 مرات تباعا في الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين. كما لم يتيسر إقامة الدورة الأولمبية العام 1940 والعام 1944 حتى استؤنفت في لندن العام 1948، ثم في هلسنكي العام 1952، وفي ملبورن العام 1956، وفي روما العام 1960.
هذا وفي الختام، نستطيع أن نقول انه اسفرت الدورات على مر الأزمنة عن نتائج التقدم الفني وزيادة عدد المشتركين فيها واهتمام العالم بأسره بها، فأصبحت من أجل وأعظم مهرجانات العصر الحاضر وابلغ مظهر للرياضة الحديثة.
وكان بودي أن تسع هذه الصفحات الموضوع كاملا بما فيه الدافع الأصلي للكتابة، وهو الدورة الأولمبية القادمة في طوكيو، ولكن وجدت أن اكتفي بهذا القدر هنا، وسأقدم في العدد القادم إن شاء الله دراسة وافية للدورة المذكورة لقيمتها وأهميتها الرياضية العالمية.
جاسم أمين
مدير التربية الرياضية والكشفية سابقا
عضو اللجنة البحرينية السابق
العدد 2163 - الخميس 07 أغسطس 2008م الموافق 04 شعبان 1429هـ