في بحث له بعنوان «إرث النهضة وأزمة الراهن» يسأل عبدالله العروي في إطار بحثه عن ازمة الراهن: هل عرف اي قُطْر عربي في أية فترة من تاريخه حالة تسبيق المجتمع على الدولة؟ لنقل معه حالة توظف فيها قدرات الدولة لتأسيس المجتمع على شكل يؤهله للاستغناء لاحقا وبالتدريج عن كثير من صلاحيات تلك الدولة (انظر: مقدمات ليبرالية للحداثة، المركز الثقافي العربي، 2000) وبالطبع فالجواب على تساؤل العروي هو لا، فالمجتمع العربي ومنذ فترة بعيدة، حتى قبل اخطبوط الدولة التسلطية التي يستفيض خلدون النقيب في رسم صورتها البشعة والكريهة، لم يعرف تلك الحال وكل ما يملكه، لنقل كل رصيده في العقود الماضية من القرن العشرين، هو حال من الحراك الثقافي والاجتماعي الذي بلغ ذروته في الحروب الاهلية العربية التي انتهت بانتصار السلطة/ الدولة على المجتمع وتجييره لحسابها، بحيث اصبح المجتمع العربي شاهد زور لصالح الدولة التسلطية وتمسرحها المشوه على خشبات الحداثة والديمقراطية، وعلى مدى العقود الثلاثة من قرننا الماضي، كان جل ما تطمح إليه النخب المثقفة الجديدة كما يسميها هشام شرابي هو عقد اجتماعي بصيغة مجازية على أمل أن يكون شريعة للمتعاقدين.
وجاءت اولى البواكير مع بدايات عقد الثمانينات من قرننا الماضي، عندما دعا سعد الدين ابراهيم، إلى تجسير الفجوة بين المثقفين والامير. كانت الدعوة إلى تجسير الفجوة أقل بكثير من مستوى العقد الاجتماعي الذي تطمح إليه الامة. ولكنها كانت دعوة إلى المصالحة بين المفكرين وصناع القرار. دعوة تجد طريقها إما على جسر ذهبي أو فضي أو خشبي، وعلى الاغلب خشبي يسير عليه المثقف وهو مطأطئ الرأس باتجاه الامير داعيا بالسلامة وطول البقاء وطوبى للسائرين على جسر خشبي. لم ترق الفكرة لغسان سلامة الذي كان عليه ان يخلف سعد الدين ابراهيم أمينا جديدا لمنتدى الفكر العربي في عمّان وظهرت صورته في مجلة «المنتدى» إلى جانب الامير الحسن بن طلال ولكن ظروفا معينة حالت دون ذلك. اقول لم ترق له الفكرة فراح يبحث عن عقد اجتماعي عربي جديد طرفاه السلطة من جهة والمجتمع الاهلي من جهة ثانية (غسان سلامة، نحو عقد اجتماعي عربي جديد، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت).
كانت الدعوة إلى تجسير الفجوة بين المثقف والامير، أو إلى عقد اجتماعي يمهد إلى المصالحة، قد تزامنت مع تحول على صعيد الخطاب العربي المعاصر، وأقصد التحول من الثورة إلى النهضة والذي قاد لاحقا إلى تراجع المثقف العربي الثوري الذي تشكل بتأثير خارجي والذي بنى عليه العروي آمالا كبيرة في عقلنة الماضي والحاضر بكيفية شاملة ومسترسلة. فكثر الحديث عن أزمة المثقف وأوهام النخبة ونهاية الداعية وتراجع دور المثقف/ النبي، وفي سياق هذا التحول قام بعض المفكرين العرب بإعادة اعتبار للمثقف المبدئي الذي يقول كلمة الحق في السلطة كما يرى إدوارد سعيد في «صور المثقف» والذي يتمتع بشخصية مستقلة، محبة للاستكشاف والتحري، وذات نزعة نقدية واحتجاجية تشتغل باسم حقوق الروح والفكر كما يقول محمد أركون، والتي ينتظر منها المجتمع العربي مهمات محسوسة لان الحال العربية لا تحتمل التأجيل، وهذا ما يدعو إليه حليم بركات في كتابه «المجتمع العربي في القرن العشرين، 2001».
كانت إعادة الاعتبار للمثقف تصدر عن رؤية ودور للمثقف الفدائي كما يسميه قسطنطين زريق أو المثقف المبدع كما يسميه حليم بركات. لنقل عن دور كبير للمثقف في المشروع النهضوي الجديد الذي راح يبشر به ناصيف نضار، وحسن حنفي وهشام شرابي والذي هو بالضرورة مشروع سياسي يرمي إلى إصلاح الدولة وتحديث المجتمع العربي وتحرير المرأة ويلقي بكاهله على عاتق المثقف.
كان إصلاح الدولة يعني بالنسبة إلى المثقف الارتقاء بالدولة من دولة العصبية إلى الدولة الحديثة، دولة جميع المواطنين. وهذا يعني ان تكون الدولة في خدمة أهداف المجتمع وليس الفكر. وكان يعني هذا ان المثقف سيرتبط بصخرة السلطة وامتيازاتها التي لا تعد ولا تحصى. وهذا ما حصل بالفعل، فعلى طول المسافة التاريخية الممتدة من ستينات القرن الماضي إلى بداية القرن الحالي، كانت «أزمة المثقفين» شاهدا باستمرار على ان السلطة العربية لا تقبل المشاركة في صنع القرار ولا في الحياة السياسية، وأن الديمقراطية المرفوعة شعارا، لا تزيد عن كونها لعبة بهدف خداع الجمهور، وان الوطن لا يزيد عن كونه ملكية عقارية للمؤسسة العسكرية والضباط الاحرار. كما يعلق أنور عبدالملك في كتابه «مصر مجتمع جديد يبنيه العسكريون، 1964». من هنا يمكن القول إنه من خريف القاهرة الذي يشهد تجاذبا حادا بين السلطة والمثقفين والذي انتهى بـ «أزمة المثقفين» التي لخصها محمد حسنين هيكل في كتابه «أزمة المثقفين، 1961» بأنها تتمثل في عدم تبعية المثقف للثورة، بصورة أدق، في رفض المثقف لسلطة المؤسسة العسكرية، داعيا إياها العودة إلى الثكنة العسكرية وافساح المجال للأمة في اتخاذ قراراتها المصيرية، والديمقراطية، إلى ربيع دمشق الذي مر مرور السحاب، لنقل كسحابة صيف. بقي المثقف كبش فداء، أو مصارعا من دون «موليتا» بحسب تعبير محمد صبور في كتابه «المعرفة والسلطة في المجتمع العربي، 1992» إذ «الموليتا» هي قطعة القماش الحمراء التي يدرأ بها مصارع الثيران الموت عن نفسه. وفي كل الاحوال كان مشروع إصلاح الدولة وتحديث المجتمع العربي ينتهي إلى أنفاق مسدودة ويفضي إلى الباحة الخلفية للسجن باعتباره العلامة الفارقة لدولة شرق المتوسط على حد تعبير الروائي عبدالرحمن منيف، التي قامت باختراق المجتمع العربي وتجييره لصالحها والحئول دون كل عملية تغيير من شأنها ان تمس امتيازات السلطة العربية التي عاهدت نفسها على الثبات ضد كل عملية تغيير؟
العدد 125 - الأربعاء 08 يناير 2003م الموافق 05 ذي القعدة 1423هـ