العدد 125 - الأربعاء 08 يناير 2003م الموافق 05 ذي القعدة 1423هـ

الضجة العالية في المشهد الثقافي العربي والإسلامي: فلسفة جديدة وعلم كلام جديد

توجد ضجة عالية في صف المشهد الثقافي الاسلامي المعاصر، ويمكننا إرجاع هذه الضجة، إلى أربعة أصوات رئيسية هي الآتية:

صوت مثقفي ما عرف بعصر النهضة (فلاسفة ومتكلمين) وكان هذا الصوت، بمثابة فعل، ورد فعل على الإحتكاك بالفكر الغربي الفلسفي واللاهوتي (الكلامي) مع تفرعاته في الاجتماع والتاريخ والسياسة، والاخلاق، وقد عرضنا إلى مشكلات هذا التيار أو المدرسة في مبحثنا: أسئلة النهضة الجديدة، وجدلية الانتحار والانقاذ. واللافت ان هذا الصوت، لم ينهض على قطيعة معرفية مع التراث، بل ساهم في الدفاع عنه، والاجابة على أسئلة النهضة الأوروبية واستخدام أدواتها النظرية، (آلة المنطق) من دون الوقوع في نطاق منظومتها الفكرية، والتي كانت تظهر منظومة مدهشة وساحرة وقادرة على جذب العقول، عند سكان المناطق البعيدة، والقريبة من المركز الأوروبي.

صوت التيارات الفلسفية الشارحة، للمدارس الفلسفية اللاهوتيه الكبرى في الغرب، والتي وجدت عندنا تأثيراتها الصميقة وأنتجت أتباعها ومريديها، من المتفلسفة والمتلكمين، والباحثين والمثقفين على اختلاف تياراتهم وكان هذا الصوت صدى مباشرا لصوت الغرب الفلسفي ولذلك اتسم بالاتباعية لا الابداعية وإستند إلى ترجمة المتون الغربية، وكتابة الشروح والتعليقات عليها، من دون التمكن من تشكيل مدرسة فكرية مستقلة. وعلى رغم اشتغال اصحاب هذا التيار على التراث وإعادة قراءته على ضوء النظريات الوافدة من الغرب، فإننا نلمس قطيعة ضمنية مع هذا التراث اتخذت لفغسها صفة النقدية، لكن هذه النقدية العربية والاسلامية لم تثمر النتائج المرجوة، لأن أصحابها، لم يتمكنوا من الوظيفة النقدية للفلسفة، تمكن أصحابهم من فلاسفة الغرب، مثل كانت وأمثاله وجاءت نتائج أعمالهم، على غير المراد منها.

الصوت الثالث هو التيار الفلسفي المجدد في التراث الحي للفلسفة الاسلامية في حلقاتها الكبرى، والتي شهدت نموا متزايدا منذ مدرسة اصفهان الفلسفية فيما كانت الترسيمة الرسمية للفلسفة تتحدث عن صدمتها بعد حملة الامام الغزالي ( ت 1111 م.) وفشل محاولة ابن رشد في إعادة يقظتها من جديد، وكذلك في الاشتغال المعاصر على العقلانية الرشدية، بعد ما أدى الاحتكاك بالغرب إلى استعادة الرشدية اللاتينية إلينا، مزودة بحمل جديد.

سنطلق على هذا التيار اسم الصدرائية الجديدة «نسبة إلى فلسفة «ملاّ صدرا الشيرازي» الذي أحيا الفلسفة الاسلامية، ومدت فلسفته بين مدرستي المشّاء والاشراق، واقامت بنيان الحكمة المتعالية، ونذهب إلى اعتبار ملا صدرا الشيرازي مؤسسا للفلسفة الاسلامية الحديثة، ودوره في حلقة هذه الفلسفة يفوق دور ديكارت في الفلسفة الأوروبية. وكذلك نسمي جانبا من هذا التيار بالعقلانية الرشدية المعاصرة، التي ازدهرت في مباحث فلسفية كثيرة، وخصوصا في المغرب العربي ولا يعني أن هذين الجناحين، لهذا التيار الثالث، يلتقيان في مذهبهم الفلسفي، إنما هما يندرجان، في تيار احياء وتجديد الحلقات الكبرى في الفلسفة الاسلامية.

صوت الكلام الجديد، الذي بدأ مع عصر النهضه، لكنه يشهد في العقد المنصرم تطورا بالغ الاهمية، ويجمع بينه الاشتغال على علم الكلام ، في موضوعاته وقضاياه الكبرى مع اجتهاد صريح في مناهجه، وغاياته ولغته، وهندسته المعرفية ويحاول الكلام الجديد، أو بعض تياراته، الابقاء على صلة معينة بالكلام القديم، وخصوصا في مدارسه الكبرى الاشعرية، والمعتزلة، والامامية الاثني عشرية، ويسيطر على تيارات الكلام الجديد، اتجاهان:

أ- البحث في الكلام باعتبار تعريفه الشهير عند علماء الكلام المتقدمين والمتأخرين، وفصله عن الفلسفة، لاعتبار الفلسفة وافدة من الروح أو الفكر اليوناني، فيما الكلام الاسلامي هو الفلسفة الاسلامية الحقة والاصيلة. ولا يخرج أصحاب هذا الاتجاه، المدارس التي جمعت الكلام إلى الفلسفة لكن عملية الجمع هذه، إنما حصلت داخل دائرة الفكر الاسلامي نفسه، كما هو الحال عند المعتزلة، وكذلك الشيعة الامامية، بعد انفصال الكلام الشيعي عن الكلام المعتزلي مع الشيخ المفيد، ونصير الدين الطوسي، واستمر على علاقة مع فلاسفة مدرسة اصفهان مع الاحتفاظ لنفسه بالاستقلال عن الفلسفة البحته، على رغم تحوله إلى كلام فلسفي بدوره.

ب- البحث في الكلام من المرحلة التي تحول فيها إلى كلام فلسفي والبناء على هذا الاساس ليمتزج بالفلسفة وعلى وجه التحديد بفلسفة الدين واعتبار الفعل الفلسفي مؤهلا للخوض في المباحث الدينية، وصالح للدفاع عن قضايا الدين، بتقديم اجوبته الخاصة عليها، والتي تشكل في جوهرها عنصر التجديد في الكلام ومباحثه.

هذان الاتجاهان في الكلام الجديد، يتفقان على ضرورة التجديد في الكلام، ويختلفان على ما سواه. والاختلاف يتحدد في نواح عدة منها:

- تعريف الكلام وملاكه.

- علاقة الكلام بالفلسفة.

- علاقة الكلام بالدين.

- علاقة الفلسفة بالدين.

- علاقة الفلسفة بفلسفة الدين.

- علاقة الدين وفلسفته بالحياة وجوانبها المتعددة بما فيها التاريخ والاجتماع والسياسة، والثقافة والاخلاق.

لقد مَرّ الكلام الجديد في مرحلتين رئيستين هما:

1- المرحلة الأولى وترتبط بارها صات التجديد عند مفكري عصر النهضة في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.

2- المرحلة الثانية في حركة الفكر الاسلامي خلال النصف الثاني من القرن العشرين، خصوصا في العقدين الأخرين منه.

وتبرز في هذين الاتجاهين مواقف تتعلق بدور ووظيفة كل من الكلام والفلسفة، ولماذا كان الكلام يقوم بوظيفته الدفاعية والمعرفية داخل إطار المعرفة الدينية، بما فيها فلسفة الدين ودوره في الحياة المعاصرة، فإذا كانت الفلسفة صناعة الفيلسوف أو صناعة يونانية، تعبر عن نفسها بالإطار الذي رسمه فلاسفة اليونان بهذا النمط من التفكير، وإذا شهدت حركة الفكر في التاريخ، مراحل أخذ ورد بين الكلام والفلسفة فإن كلا منهما احتفظ لنفسه بمساحة من الاستقلال الخاص، هذا من ناحية، من ناحية أخرى ان الفلسفة تفكير مجرد، ونشاط إنساني يبحث في الوجود، بما هو وجود، والحقيقة الفلسفية مستفادة من هذا البحث في الوجود، فيما علم الكلام بحث في الحقيقة الدينية المتحصلة، ونشاط إنساني للدفاع عن هذه الحقيقة وتفسيرها. والتجديد في الكلام يحفظ طابعه الدفاعي ويطور طابعه المعرفي، من خلال تطور عملية التفسير نفسها للحقيقة الدينية المتفاعلة مع حركة العقل الانساني في الزمان والمكان. وإذا كان من موقف فلسفي في هذا الكلام فإنه موقف تفسيري للحقيقة الدينية المتحصلة في الكتاب، تلك هي الفلسفة عند أهل الكتاب، وينطبق عليها اسم فلسفة الدين، أو الفلسفة الدينية، ولا يفيد في التمييز بين الحقيقة الفلسفية والحقيقة الدينية القول بوحدة الحقيقة أو تفكيك هذه الوحدة، لاعادة جمعها من جديد، إن مفهوم وحدة الحقيقة، في صيغها التاريخية، قضية فلسفية أو دينية استفاد منها القائلون بالتوفيق بين الفلسفة والدين، المناهضون لهذا التوفيق، على السواء. إن كل طرف يوحد هذه الحقيقة ليدخل فيها الحقائق الأخرى كافة، أو ليكون مستعدا لمواجهتها في صراع المدارس الفكرية...

وعليه يأخذ اصحاب المدرسة الأولى في الكلام الجديد على أصحاب المدرسة الثانية اغتصابهم لاسم الكلام، لاضفاء شرعية اسلامية على آرائهم... لايستحقونها، ويذهب اصحاب المدرسة الأولى في الكلام الجديد أن بامكان اصحاب المدرسة الثانية، أن يفكر كما يشاؤون، ولكن ليختاروا لهذا الفكر اسم العلم الذي يناسب موضوعاته، ومناهجه ولا يدخلونه عنوة إلى رحاب علم الكلام وإضفاء صفة الجديد عليه لأنه في الاساس ليس علم كلام لا من قريب ولا من بعيد، إنما هو فلسفة أو نشاط فكري يحشر نفسه في موضوع الكلام.

من الطبيعي أن يقوم بين هذين الاتجاهين، اتجاهات فرعية توفيقية، تحاول ان تجد تسوية، ربما تفرضها الحياة نفسها، لكنها تسوية تقوم على دراسة الضوابط، التي يمكن بواسطتها حفظ كيان الدين، والحقيقة الدينية، من صراعات الفلسفة والكلام على السواء.

يمثل المشهد الفلسفي في إيران في المشرق الاسلامي، وكذلك المشهد الفلسفي في المغرب الاسلامي من خلال الاشتغال على الفلسفة الاسلامية بتأثير الابستولوجيا الفرنسية الصورة المثلى للضجة المشار اليها. ولعل اسماء: محمد مجتهد شبستري وعبدالكريم سروش وأحمد قراملكي، وسيد حسين نصر، مصباح اليزدي، وحسن زادة آملي، وجعفرسجادي، وجعفر سبحاني وسواهم كثيرون في ايران، وكذلك، محمد عابد الجابري، وطه عبدالرحمن، محم أركون، وحسن حنفي، وسواهم كثيرون في المغرب، والمشرق العربي، صورة الفلاسفة عن الانتاج الفلسفي.

إن المشهد الأول يستمد صوته من «الصدرائيه الجديدة» فيما المشهد الثاني يستمد صوته من العقلانية الرشدية المعاصرة. وعلى رغم أن ابن رشد وملا صدرا لم يلتقيا فلسفيا إذ انه من غير المحقق اطلاع ملا صدرا على فلسفة ابن رشد أو اهتمامه بها، فانهما يلتقيان من جديد، في صف الفلسفة الاسلامية المعاصرة.

يلعب كل من الشيخ الرئيس ابن سينا وحجة الاسلام الغزالي، دور الصورة الخلفية لهذا المشهد، والغزالي وابن سينا محورا الصراع في الفلسفة الإسلامية، وهو صراع ملتبس من حيث أن حملة الغزالي على الفلاسفة انما قصدت ابن سينا حتى قال أحد الظرفاء: «إن الغزالي مريض وغايته الشفاء». يقصد كتاب الشفاء لابن سينا ومن ناحية ثانية، نجد أن الغزالي وابن سينا يشتركان في التأسيس لفلسفة الاشراق الاسلامية، ابن سينا في فلسفته المشرقية، وكتابه «الاشارات والتنبيهات»، والغزالي في كتابيه «مشكاة الأنوار» و«المنقذ من الضلال» الذي دافع فيه عن فرقة الصوفية، لكن هذا الاشتراك، لم ينفع في نواحي الخلاف. وحين دافع ابن رشد عن الفلسفة لم يقصد الدفاع عن ابن سينا وإنما عن المعلم الأول أرسطو وهكذا تحول ابن رشد إلى «أرسطو الإسلام» ومنه تستمد العقلانية المعاصرة، موقفها من الفلسفة الاشراقية ومن التصوف، فيها نجد في «الصدرائية الجديدة» من حاول محاكاة الغز

العدد 125 - الأربعاء 08 يناير 2003م الموافق 05 ذي القعدة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً