العدد 125 - الأربعاء 08 يناير 2003م الموافق 05 ذي القعدة 1423هـ

سياسة الحضارة

على رغم أننا نحلم بعالم متعدد الحضارات، إلا أن الواقع شيء آخر. نحن نحيا في عالم تسود فيه حضارة واحدة بينما الحضارات الأخرى خاضعة لها.

وليس ملائما في الأحوال جميعها التحدث عن حضارة مفردة مهيمنة، لأن هناك ثقافات ومجتمعات كثيرة داخل الحضارة الغربية لا تهيمن على ثقافات ومجتمعات أخرى. وربما يكون مناسبا التحدث عن مراكز القوة المهيمنة داخل الحضارة الغربية. وبطريقة مماثلة، ليست الحضارات جميعها غير الغربية تابعة للغرب بالطريقة نفسها أو بالدرجة نفسها. بجانب ذلك، هناك نخبة في الحضارات غير الغربية مرتبطة بمراكز القوة المسيطرة في الغرب وهي في الواقع جزء من بنيات الهيمنة نفسها. ولا نكون مخطئين إن قلنا إن النظام العالمي الموجود الآن هو النظام الذي تقع فيه مراكز القوة المهيمنة أساسا في الغرب. وبهذا الفهم يمكننا استخدام مصطلح «الهيمنة الغربية».

وتعد الهيمنة العالمية الغربية مسئولة جزئيا عن خلق عالم غير عادل وغير متساو يبقى فيه جزء كبير من الأسرة الإنسانية فقيرا وبلا قوة. وفي السياسة، تستطيع قوة مهيمنة أحادية مثل الولايات المتحدة، ومن خلال مجلس أمن الأمم المتحدة، أو بمحض ارادتها، استخدام العقوبات لتجويع أمة بأكملها أو الضغط على شعب بأكمله من أجل أن تجبره على الاذعان لإرادتها. وتستطيع أن تحمي منتهكا وقحا لحقوق الإنسان بينما يمكنها أن تعاقب في أمور أخرى إنسانا، معتمدة على مَن هو الصديق ومَن هو العدو. وتساعد مراكز القوة في الغرب واليابان على تسيير اقتصاد عالمي يسيطر فيه 20 في المئة من الأغنياء على 85 في المئة من الدخل العالمي. فقد أوجدت هذه القوة اقتصادا تفوق موجودات نحو 358 من البليونيريين في العالم الدخل السنوي موحدا لنحو 45 في المئة من سكان العالم. اقتصاد فيه الانفاق السنوي على هرة في النرويج يفوق بكثير الدخل السنوي لإنسان في الدول الأقل تقدما. وما يعد غير مقبول أيضا، ان قوى الهيمنة العالمية هذه تمتلك غالبية ترسانة الأسلحة النووية في العالم وتمارس تقريبا احتكارا كليا على انتاج ومبيعات تكنولوجيا الأسلحة المعقدة. وفي الوقت نفسه، تتلاعب مراكز القوة في الغرب في نظام حقوق الملكية الفكرية للسيطرة على تدفق المعرفة والأفكار التكنولوجية والعلمية. وتظل معظم قنوات الطباعة ووسائل الاتصال الالكترونية العالية الجودة في أيدي هذه الأقلية المتمركزة في الغرب.

وتمكن هذه السيطرة والهيمنة على المعلومات والأفكار والمعرفة مراكز القوة في الغرب من تشكيل العالم وفقا لما تراه. ونجح الغرب أيضا في تشكيل بعض من قيمنا الأساسية من خلال مجموعة متنوعة من الوسائل التي تمتد من الرسوم الهزلية والكاريكاتورية إلى الأفلام والموسيقى.

وبلغ الأمر درجة حتى عقائدنا مشروطة بالقيم الغربية في مظاهر معينة منها علاقات الذكور والاناث، وفي وضع المرأة، وفي تربية الطفل، وفي الأسرة والمجتمع، وليس هناك ضرورة إلى التأكيد على ذلك كثيرا، فقبل أن تبدأ قيم وأفكار مظاهر الحياة الغربية اختراق مجتمعاتنا، أنشأنا القانون والإدارة والحكومة والاقتصاد على نماذج غربية. ولذلك يعد النفوذ الغربي كلي الوجود وهو في غالبية الأوقات لا ينظر إليه على أنه عنصر غريب تطفل على المجتمعات غير الغربية. وهو نفوذ أصبح مندمجا في عقل وجسم وقلب وروح الإنسان غير الغربي. وبمعنى آخر، أصبحت الهيمنة الغربية عادية وطبيعية. وبواسطة السعي إلى جعل هذه الهيمنة طبيعية وعادية، حصلت مراكز القوة في الغرب على انتصار كلي.

وما يقلق بعض الأفراد والجماعات في مراكز القوة أنه وسط هذا النهج الناجح هناك بعض الناس في العالم غير الغربي بدأوا يعترضون على الهيمنة الغربية. وبالطبع، لقد تم تحدي السيطرة الغربية في فترة ما بعد الاستعمار بوضوح وخصوصا في السبعينات ولكن منذ نهاية الحرب الباردة، أصبح صوت المهيمن عليه مخففا إلى حد ما. وهذا هو السبب الذي جعل المقاومة الحالية للهيمنة الغربية تحدث بعض الذعر داخل مراكز القوة.

وقبل أن ندرس أهمية هذه المقاومة، يجدر بنا توضيح أنه ليس كل شيء يحدث باعتباره مقاومة يستحق الثناء والاطراء.

ويعد الرفض الجنوني لكل شيء غربي باسم المقاومة غباء فهناك الكثير من الافكار والقيم التي تتعلق بالنظام السياسي، والاصلاح الاقتصادي، والتحول الثقافي جاءت من الغرب وتم استيعابها بواسطة المجتمعات غير الغربية والتي أسهمت بلاشك في تعزيز العدل الاجتماعي والكرامة الانسانية.

ومن المعلوم تماما أنه يوجد أحيانا في جذور المقاومة بعض الدوافع الخفية أو غيرها. هناك زعماء في المجتمعات غير الغربية، على سبيل المثال، يثيرون الدفاع عن الثقافة والتقاليد سببا يقاومون به انتهاك ما يسمى بالافكار والحرية والجودة الغربية، بينما في الواقع هم يقصدون إطالة حكمهم الاستبدادي. وعلى أية حال، لا ننكر أنه في كثير من مجتمعاتنا توجد مواقف، وممارسات تتعلق بالتقاليد والثقافة يجب التخلص منها. وربما في الوقت الذي لا تكون فيه المقاومة جوهرية في حالات بعينها، هناك مبررات قوية لا تقبل الجدل ومقنعة في مقاومة الهيمنة. مثل تصاعد الظلم والجور الفادح في النظام العالمي الموجود الآن فهو من أهم تلك المبررات والحجج. وقد رأينا كيف ان هذا النظام المسيطر يحرم ويسيء للغالبية العظمى من البشرية. ومع تمركز القوة الحقيقية، والثروة والمعلومات أكثر في أيدٍ قليلة، مع وجود احتمال قوي يصبح الوضع لدى الفقراء والضعفاء أكثر سوءا في المستقبل.

يوجد سبب آخر لأن تكون هناك مقاومة. إذ يفرض أولئك الذين يعارضون مراكز القوة في الغرب، نظريتهم عن الفرد، وحقوق الانسان، وحقوق المرأة، والحقوق الجنسية، والزواج والاسرة على المجتمعات غير الغربية في حين أن لديهم وجهة نظر قيمة عندما يجزمون أن في دياناتهم وثقافاتهم تكون لتلك الافكار معانٍ وفروق مختلفة، على سبيل المثال، يكون الفرد في غالبية الديانات مندمجا مع مجتمعه، فهو لا يتجاوز من خلال علاقة عدوانية مجتمعه، إذ لا يمكن فصل الحقوق ابدا عن الواجبات، وفي البوذية والمسيحية والاسلام فإن الحقوق مستمدة من الواجبات، كالزواج بين الذكر والانثى، بينما لا يوجد أي دين يقبل زواج الجنس نفسه، أو العلاقات المثلية.

إن الافكار المتعلقة بحقوق وواجبات وزواج وأسرة الفرد والمجتمع متجذرة في الفلسفات الاخلاقية والروحية التي تعود إلى آلاف السنين في بعض الحالات. كل دين - وديانات العالم المكونة جميعها في رحم قارة آسيا - يجسد في فلسفته الافكار والتأملات جميعها في طبيعة الانسان ومصيره وعلاقته مع الله والآخرة. وتجد هذه الفلسفات الاخلاقية والروحية الواضحة في العالم المتعدد الحضارات الأصيل إعترافا مستحقا. كيف ترتبط الآراء العالمية المتضمنة في الديانات المختلفة والافكار المتنوعة والممارسات مع البيئة، وإدارة الموارد الطبيعية، والعلوم، والتقنيات، وبناء المدن، والاقتصاد، والزراعة، والصناعة، والسياسة، والادارة والقانون، إنها تستحق التحليل والدراسة في عالم اليوم. يمكن ان يكون هناك نفاذ بصيرة في آراء العالم الدينية تساعد الانسان العصري في حل بعض التحديات التي تواجهه. وهذا هو السبب الثالث الذي يحتم مقاومة الهيمنة الغربية. اذا تمت الهيمنة لكل مجتمع بالكامل بواسطة القوة الغربية، والحقائق الأبدية، والقيم الدائمة، والحكمة المتراكمة عبر القرون، والمعرفة المكتسبة من خلال التجارب المعاشة لاجيال الرجال والنساء، فإن ذلك المجتمع سيمحى في طرفه عين. وما يهم في الحكمة المدخرة في الدين هو أن المعرفة الإلهية المتعمقة، ربما تكون المعرفة الوحيدة التي يأمل فيها الانسان الحديث بالتغلب بها على الأزمة الروحية والاخلاقية الاستراتيجية التي تهدد إلى تدمير كيانه.

ومن المؤسف أن مراكز القوة في الغرب لا تعترف ولا تحترم التراث الديني الغني للعالم غير الغربي، حتى وإن قدمت في بعض المناسبات خدمة جليلة له. فكيف يتحدث المرء عن عالم متعدد الحضارات بينما لا يعطي آخر شرف المكان للنهضة الحضارية لنحو خمسة أسداس البشرية؟ أي نوع من عالم متعدد الحضارات هذا الذي لا يعطي تأكيدا للتاريخ، والأدب، والمعمار، والعلوم، والحقيقة مجموعة كاملة من الانجازات الحضارية لمجموعة بشر تمثل معظم سكان الأرض في نظامها التعليمي، وشبكة وسائل إعلامها ومراكزها الثقافية؟

وبنفي حضارات جل البشرية إلى ركن مظلم من التاريخ، أظهرت مراكز القوة في الغرب ألوانها الحقيقية فهي لا ترغب في عالم متعدد الحضارات يقوم على العدل، والمساواة، واحترام التنوع. إنهم يرغبون في استمرار هيمنتهم على العالم. وهذا هو السبب ما لم يعدون العمل على ازالة هيمنتهم ووقف سيطرتهم، فإنه لا أحد يصدق كلامهم المنمق عن «عالم عادل» أو عن «تعايش سلمي بين الحضارات».

ويذكرنا انعدام صدقيتهم باحدى قصائد تولستوي الشهيرة التي تقول:

جلستُ على ظهر رجل

أمازحه حتى يحملني

ومازلتُ اؤكد له بنفسي والآخرين

أنني متأسف جدا له

وأتمنى أن أخفف الحمل عنه

بكل الوسائل الممكنة

سوى بالتنحي عن

العدد 125 - الأربعاء 08 يناير 2003م الموافق 05 ذي القعدة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً