العدد 128 - السبت 11 يناير 2003م الموافق 08 ذي القعدة 1423هـ

سارة... إمرأة الملازم الفرنسي

شخصية «سارة وودروف» والتي تلعب دورها ميريل ستريب في فيلم (إمرأة الملازم الفرنسي) على رغم تعقيدها الشديد، فقد إستطاع كاتب السيناريو رسمها وتحليلها كأفضل ما يكون.

ولكي تتوضح لنا هذه الشخصية ونستطيع أن نفهمها، لابد لنا أن نفهم البيئة والعصر الذي تعيش فيه، إذ تعكس هذه الشخصية عصرا كاملا ورؤية واضحة لما كان يحدث في ذلك الوقت في إنجلترا، من صراع بين مجتمع راسخ له قيمه وتقاليده القوية المتسلطة وبين رياح التغيير التي بدأت تطرح أفكارا جديدة لابد أن تقاوم بعنف حتى لا تنسف أعمدة هذا المجتمع التقليدي.

هذه الشخصية هي تلخيص ذكي لهذا العصر ولهذا الصراع، فهي عندما تقول بأنها كانت تبحث عن حريتها في نهاية الفيلم، لم تكن تعني بالطبع الحرية بالمعنى الفردي وإنما بما هو أكثر عمقا وشمولا... كانت تعني البحث عن الذات وعن أسلوب جديد للحياة في هذا المجتمع المغلق... هذا حتى ولو لم تكن «سارة» مدركة لذلك لفرط إنهماكها في مأساتها الشخصية. إننا هنا نعيش فترة العصر الفكتوري، حيث التحول الصناعي في بريطانيا يصل إلى قمته في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر (زمن الفيلم) ويصحبه نشاط تجاري كبير بين بريطانيا وأرجاء إمبراطوريتها المترامية الأطراف... ونرى كيف أن الفيلم إستطاع أن يجسد هذا العصر، في شخصية واحدة، بكل ملامحه من تزمت وجمود فكري وأخلاقي وتمسك بتعاليم الكنيسة في مجالات التفكير والسلوك العلمي والعملي، إذ يبدو كل ذلك واضحا في شخصية السيدة «بولتيني« التي سمحت لـ «سارة» بأن تعمل لديها ولكن بعد إرشادات ونصائح وأوامر أصدرتها لكي تلتزم بها.

وسط كل هذه الظروف المعقدة، وفي ظل هذا المجتمع المغلق، توجد «سارة»... هذه الفتاة الجميلة الرقيقة الحالمة، والتي تبدو وكأنما وجدت في غير عالمها أو في غير موعدها، فهي فتاة متعلمة ومثقفة تعرف اللغة الفرنسية، إذ يبدو هذا في مظهرها وفي أدق إيماءاتها الرقيقة، على رغم ظروفها التعسة... إنها نبات برّي غريب وشديد الجمال في غابة وحشية... وهي، بالطبع، نموذج لشخصيات أخرى كثيرة لابد أنها موجودة في ظل هكذا ظروف، وتطمح الى الحب والحرية والحق في السعادة... ويمكن أن تكون «سارة» هذا النموذج حينما نضعها في إطار الجو العام الذي يرسمه الفيلم، لتكون رمزا للصراع بين عالمين متناقضين، القديم الذي يتشبث بقيمه وقوانينه والجديد الذي يحاول أن يجد لنفسه مكانا ويؤكد ذاته ويحصل على حرياته.

وإذا كان أهل القرية يسمون «سارة» (الآنسة مأساة) فقد يكون ما يعنونه هو مأساتها الشخصية مع الملازم الفرنسي الذي أقامت معه علاقة آثمة ثم هجرها، وهم بذلك يحبسون أنفسهم في النظرة الأخلاقية... مع أن الفيلم، في رؤيته الشمولية، يتجاوز هذه الرؤية الأخلاقية الى مأساة أكبر هي مأساة الوجود في العصر الخطأ. هنا تكون مأساة «سارة» أعمق من مجرد سقوطها الجسدي مع ملازم فرنسي، بل إن هذا السقوط نفسه هو أكذوبة إخترعتها «سارة» (نعرف ذلك عندما تعترف لـ «شارلز» بعد إكتشافه انه أول رجل في حياتها)، وكأنها اختارت أن تعاقب نفسها بالفضيحة والعار والإمتهان، كنوع من تعذيب النفس... وما نفهمه نحن من هذا السلوك الغريب هو أنها وجدت نفسها عنصرا غريبا أكثر رقيا من الوسط المحيط بها فقررت أن ترتفع عن هذا الوسط بأن تصبح منبوذة فيه، أي منفية بإختيارها... وما كانت تبحث عنه «سارة» بالتأكيد هو أن توجد، لا بالمعنى الجسدي وإنما بأن يصبح لها كيان ويمكن أن يحقق ذاتها، لذلك نراها تصر على أن ترسم بإستمرار حتى تنجح في النهاية، وتجد ما يجعلها متفردة بموهبتها في الرسم، ولكن ما هو أهم من ذلك بالنسبة لها أنها وجدت حريتها

العدد 128 - السبت 11 يناير 2003م الموافق 08 ذي القعدة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً