العدد 128 - السبت 11 يناير 2003م الموافق 08 ذي القعدة 1423هـ

هل السينما الفلسطينية ضرورة أم كمالية

يطرح الفيلم الفلسطيني «تذكرة إلى القدس» الذي سجل رقما قياسيا من حيث عدد المشاهدين في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي السادس والعشرين حديثا علامة استفهام من خلال عرضه لمعاناة شعب وبقاء اتفاقات السلام كافة حبرا على ورق، هي: «هل السينما في زمن الاحتلال ضرورة أم أنها تدخل ضمن الكماليات؟».

ويسعى الفيلم إلى الإجابة عن السؤال من منظور فني بحت عاشق للسينما وقادر على تحويلها وسيلة للتسلية إلى أداة لمواجهة الاحتلال وتحدي سطوته.

أخرج الفيلم المجتهد الفلسطيني رشيد المشهرواي الذي يقيم في مدينة يافا. وكان المشهرواي قد نال جائزة الهرم الذهبي في الدورة السابقة لمهرجان القاهرة في العام 1993 عن فيلمه «حتى إشعار آخر» الذي صوره في مدينة غزة تحت الاحتلال الإسرائيلي وهو بمثابة يوميات أسرة فلسطينية تحولت إلى صيحة مدوية ضد وحشية الاحتلال في مواجهة أبناء الشعب الفلسطيني. كما حصل فيلمه «حيفا» على جائزة أحسن فيلم عربي في الدورة العشرين لمهرجان القاهرة العام 1996 والذي رصد من خلاله تحول مدينة حيفا من الحكم الفلسطيني إلى الحكم الذاتي الفلسطيني إذ الوضع المعلق والمستقبل الغامض.

أما في فيلمه «تذكرة إلى القدس» يواصل رشيد المشهرواي تحليل الواقع الفلسطيني من منظور فني بحت، وقد استعان بتمويل من جهات استرالية وفرنسية وهولندية بجانب مركز الإنتاج السينمائي الفلسطيني في تجواله بكاميراته الناقدة بين مدينتي رام الله الفلسطينية والقدس التي لاتزال ترزح تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي.

الشخصية المحورية للفيلم يجسدها «جابر» وهو فلسطيني من يافا في الأربعينات من عمره ومتزوج من «سناء»، وقد نزح مع آلاف الفلسطينيين إلى بيروت. وعند إقامة الحكم الذاتي عاد مع زوجته إلى مدينة رام الله، ليمارس مهنة إنسانية راقية، يحمل آلة عرض سينمائي متهالكة على سيارة قديمة لعرض أفلام قديمة على أطفال المدارس من دون مقابل مكتفيا بعمل زوجته سناء في فرقة إسعاف تابعة لأحد المستشفيات.

وعبر الجولات المكوكية للزوجين تفجر الخلفية الدرامية للحوادث مأساة الشعب الفلسطيني بحس رقيق بعيدا عن المشاهد الدموية المتكررة التي تناقلتها وكالات الأنباء والمحطات التلفزيونية يوميا والتي يتساقط فيها الشهداء منذ الاجتياح الإسرائيلي لمناطق الحكم الذاتي الفلسطيني. وعلى رغم قسوة ظروف الحياة في رام الله التي تغلي بالحوادث الساخنة فإنها لم تمنع بطلي الفيلم من ممارسة الحياة الزوجية السعيدة حتى ولو كانت بلا أطفال وعلى رغم المشكلات العارضة مع اختلاف وجهات النظر، ومقارنة بجارتهم الشابة التي تطرد زوجها وهي تضربه بالنعال لعجزه عن الحصول على عمل منذ شهور طويلة، كما تسبه أمام الجميع بلا خجل مع استسلامه التام لها لولا تدخل جابر وزوجته.

وقد يبدو منذ الوهلة الأولى للمتلقي أن جابر يمثل صورة سلبية للواقع الفلسطيني المشتعل غضبا ضد الاحتلال الإسرائيلي، ولكننا نكتشف أنه يحمل آلة العرض السينمائي باعتبارها سلاحه الوحيد المتاح لممارسة دور حضاري بين الأطفال الفلسطينيين في محاولة لإخراجهم من أحزانهم من جهة والترفيه عنهم من جهة أخرى وربطهم بالواقع العالمي من جهة ثالثة وهو لا يكتفي بذلك الدور في المدن الفلسطينية بل يقرر تحمل الصعاب لعرض أفلامه على الأطفال الفلسطينيين في القدس تحت الاحتلال.

وتتصاعد الحوادث الدرامية للفيلم عندما يلتقي جابر عاشق السينما برباب مدرِّسة الأطفال بالقدس والتي تعرض عليه فكرة عرض أفلامه في ساحة منزلها بالقدس ويوافق على الفور متحديا الصعاب.

يسيطر الإحباط على جابر على رغم جهوده الفنية ذات البعد الوطني وخصوصا عندما ينتقل إلى موقع مدرسي فيكتشف عدم وجود أي طفل لمشاهدة عروضه وكذلك انقطاع التيار الكهربائي وهو أمر متكرر الحدوث ومن دون أن يغفل المخرج إيجاد بديل حضاري رائع في مقهى مجاور للمدرسة إذ يقوم شاب بعزف العود أمام مجموعة متناسقة من الشموع بنغمات تطرب جابر وتخفف من أحزانه. ويتعالى صوت فيروز بأغنيتها «القدس» كلما انتقل جابر إلى أجواء المدينة لزيارة رباب، لتشعل في النفوس أحقية العرب في استرداد القدس، ولكن ذلك لا ينفي تسلسل السيناريو بذكاء لجرعات متفرقة من النقد الذاتي للأوضاع الفلسطينية من خلال حوار سناء لزوجها والتي فجرت مأساة شعب بأكمله عندما أكدت رفضها الانتقال إلى كندا مع شقيقها الذي يقيم في كندا إذ يملك «سوبرماركت»، متمسكة بالأرض حتى لا تكون لاجئة في الغربة. وعندما أقامت في بيروت كانت في انتظار العودة إلى الوطن ولكنها في رام الله لا تعرف العودة إلى أين؟ كما أن كاميرا رشيد المشهرواي جسّدت بجلاء مظاهر الدمار والخراب في جميع أنحاء المدن الفلسطينية وأكوام القمامة المتعالية، ومصاعب الحصول على المتطلبات الأساسية وبالتالي قطع الغيار حتى ولو كانت مصباح تشغيل ماكينة العرض السينمائي لجابر والتي تهدد بتوقف نشاطه الإنساني!

وعلى رغم اقتناع جابر بمهمته الإنسانية الحضارية القومية، وسعادة الأطفال الغامرة بدوره الثقافي، فإن الرأي العام في المجتمع يسخر من تلك المهمة على لسان الجميع ويعدها مضيعة للوقت وتبديدا للجهد ويمكن الاستغناء عنها أمام مطالب أكثر حيوية مثل توفير الغذاء أو تدبير الحماية أو مقاومة العدو الشرس وذلك اعتبارا من سناء نفسها وكمال الميكانيكي وأم رباب العجوز المريضة من دون أن ينال ذلك من عزم جابر أو يفتر من همته.

يتناول الفيلم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي المباشر من خلال احتلال أسرة يهودية لمنزل رباب وحصرها في غرفة واحدة تمهيدا لطردها أو إجبارها على الخروج وذلك بإغلاق دورة المياه ومنع استخدام ساحة المنزل وتجوال رب الأسرة عاريا في البيت وكلها أساليب على رغم فظاظتها تبدو رقيقة مقارنة بالأساليب القمعية العنيفة التي يتردد صداها للعرب تحت الحكم الإسرائيلي. ويؤكد الفيلم في النهاية أن السينما يمكن أن تكون أداة فعالة وضرورة حتمية تحت الاحتلال وأنها ليست كمالية، بل حق للمواطن مهما اشتدت ظروف القهر وتساقط القتلى من ضحايا وانهارت المساكن ظلما وعدوانا ليدعم الفيلم دور السينما الخطير في الحياة وذلك أجمل ما يحمله الفيلم.

عقّب مخرج الفيلم مشهرواي بقوله: «لقد أردت في فيلمي أن أترك مساحة للإنسان لأحكي عنه وعن تفاصيل حياته اليومية بعيدا عن الشكل العام الذي ترونه في نشرات الأخبار، لهذا قصدت أن أبتعد عن شكل المأساة التي ترتبط دائما بالحديث عن الإنسان الفلسطيني».

أما بطلة الفيلم الممثلة عرين العمري فقالت: «إنني سعيدة باشتراكي في هذا العمل وبعرضه داخل المهرجان وخصوصا أنه أول مرة أشاهد الفيلم لأن كل من شارك فيه لم يشاهده حتى الآن».

وقد رد المشهرواي عن تساؤل بشأن اقتراب الفيلم من الشكل التسجيلي باعتباره تكنيكا قائلا: «لقد قصدت ذلك من خلال الكاميرات التي استخدمتها وأسلوب المونتاج إذ أننا كنا نصور في المواقع الأصلية وأن المصور معي كان فرنسيا وكان جنود الاحتلال أكثر لطفا وأقل بشاعة مما هم مع الفلسطينيين»

العدد 128 - السبت 11 يناير 2003م الموافق 08 ذي القعدة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً