مي المصري مخرجة سينمائية فلسطينية من مواليد نابلس العام 1959، حائزة بكالوريوس في السينما من سان فرانسيسكو في أميركا. عملت في إخراج وتصوير ومونتاج أفلام وفازت بالكثير من الجوائز، أسست مع زوجها المخرج اللبناني جان شمعون مؤسسة نور للإنتاج، أفلامها: «تحت الأنقاض» 1983 و«زهرة القندول» 1987، و«بيروت... جيل الحرب» 1988، و«أحلام معلقة» 1992، و«رهينة الانتظار» 1994 (بالاشتراك مع جان خليل شمعون)، و«أطفال جبل النار» 1991، و«حنان عشراوي... امرأة في زمن التحدي» 1995، و«أطفال شاتيلا» 1998، و«أحلام المنفى» 2001.
مجموعة من الاعمال، تعكس ولعا بالسينما في وظيفتها وموضوعاتها، وهو أمر يفسر ما قوبلت به أعمال مي المصري السينمائية من اهتمام على المستويين العربي والدولي وخصوصا لجهة حصولها على الكثير من الجوائز المهمة.
«الوسط» استغلت حضور مي المصري عرض فيلمها «أحلام المنفى» في دمشق، وأجرت معها حوارا عن بعض جوانب تجربتها السينمائية، وفيلمها الاخير، فكان هذا الحوار:
* المتتبع لأفلامك، يلاحظ، أن معظم أعمالك تتناول القضية الفلسطينية، ما هو السبب؟
- أفلامي تعبر عن التجارب التي أعيشها، بدأت العمل في الإخراج سنة 1983، أنا فلسطينية من نابلس، عشت طفولتي كلها في لبنان، درست في أمريكا وتخرجت 1981، وقدمت أفلام الدراسة في أميركا، بينها فيلما عن عائلة مكسيكية تعيش في أميركا، كان من أول تجاربي.
أتيت إلى لبنان بداية الثمانينات، وتعرفت على المخرج جان شمعون، إذ أسسنا شركة إنتاج، ثم تزوجنا، وجزء من أعمالي قدمته بشكل مشترك معه، قدمنا معا «الاجتياح الإسرائيلي وحصار بيروت» عشنا فيها ناسا وسينمائيين، وكانت تجربة لبنانية فلسطينية، وفي أفلامنا ظهر دائما الهم المشترك اللبناني الفلسطيني، كل الأفلام التي قدمتها اتصلت بظروف تاريخية، مثل «حصار بيروت»، و«أطفال جبل النار» و«زهرة القندول» عن المرأة في جنوب لبنان خلال الاحتلال الاسرائيلي، و«جيل الحرب» عن تجربة الشباب اللبناني والفلسطيني خلال الحرب اللبنانية، و«أحلام معلقة» عن تجربة أربع شخصيات لبنانية بعد الحرب الأهلية.
عملت في لبنان ثمان سنين في أفلام مشتركة مع جان شمعون، بعدها ذهبت إلى فلسطين، لأبدأ تجربتي السينمائية هناك، وأنجزت الفيلم الأول «أطفال جبل النار» بمفردي، وكانت مرحلة جديدة بالنسبة إليّ، أصبحنا أنا وجان نعمل بشكل متوازٍ نساعد بعضنا البعض في الأفلام، لكن بإخراج مختلف، لا أستطيع القول إنني مختصة في الموضوع الفلسطيني، لكنني أعمل في موضوعات إنسانية، تطرح مواضيع اجتماعية لأناس عاديين عاشوا تجارب صعبة، وأكثر ما يهمني الإنسان.
* يبدو فيلم «أحلام المنفى» تتمة لتطور شخصيات أبطال فيلمك «أطفال شاتيلا»، ما السبب الذي جعلك تعيدين رصد تطور تلك الشخصيات بعد ثلاث سنوات؟ ألا تعتقدين أن الشارع الفلسطيني يحمل قصصا وحكايا أخرى وكثيرة؟
- أحلام المنفى استمرار لتجربة عشرين سنة من العمل، وهو استمرار لفيلمين «أطفال جبل النار» الذي عملته في نابلس خلال الانتفاضة الأولى، وفيلم «أطفال شاتيلا» الذي قدمت بمناسبة الذكرى الخمسين للنكبة، وجاء «أحلام المنفى» استمرار للتجربتين، تجربة اللجوء في مخيمات المنفى، وتجربة الانتفاضة في داخل فلسطين.
والحقيقة، أن هناك خطا يربط الثلاثة معا، هو عالم الأطفال، إذ حاولت أن استوحي من عالم الأطفال ومن خيالهم توجهي السينمائي، وترددت في عمل فيلم آخر بعد أطفال شاتيلا، لكن الذي شجعني هو عدة أمور منها العلاقة الخاصة والحقيقية التي ربطتني بهم من خلال اتصال شبه يومي معهم، وهو ما جعلني أعتقد أن فيلما واحدا عنهم لا يكفي أبدا، لأن تجارب هؤلاء الأطفال غنية لدرجة عالية وحياتهم تتغير باستمرار، وأنا أراهم كيف يكبرون منذ عشرين سنة.
* كيف رسمت علاقتك مع الأطفال بصفتكِ مخرجة على رغم أن الطفل لا يملك الخبرة السينمائية والتعامل معه صعب، وهناك قدرة عند الأطفال ليكونوا أكثر حرية وعفوية بالتعبير عن أنفسهم داخل العمل؟
- أهم شيء في العلاقة، ما يحدث قبل التصوير، ثم تأتي العلاقة خلال التصوير. وخلال عشرين سنة من العمل يصبح لديك خبرة بالتعامل مع الآخرين، كيف يمكن أن تكوني قريبة من الشخص، وخصوصا مع الأطفال، لا يمكن لكِ إلا أن تكوني جزءا منهم تتأثرين وتتفاعلين معهم، أنا شخصيا أدخل في الموضوع وأتأثر به كثيرا، العلاقة الإنسانية بالنسبة إليّ أهم من السينما. هؤلاء الأطفال يمتلكون طاقات هائلة، واعتادوا العمل معي، وأصبحوا ينسون الكاميرا، ويتصرفون بشكل عفوي، وأنا أحاول أن أتأقلم معهم، لا أن أحركهم كما أريد، كما أنني لا أحضر لهم سيناريو مكتوبا، أتعايش معهم، أعيد التفكير والتواصل مع عالمهم حتى يكون الفيلم تعبيرا صادقا عنهم، يوجد الكثير من الأمور التي تعايشنا فيها مع بعض، فكثير من اللقطات لم يكن فيها إعادة للتصوير، كانت وليدة اللحظة. كما حدث عند تحرير الجنوب، لم يكن هناك تحضير مسبق، وكانت مفاجأة كيف استطعنا أن ننجح، تجاوزنا الصعوبات بمزيج من التحضير ومن العفوية ومن الصدق والإحساس البسيط، وهو يشبه بعض ما حصل خلال الانتفاضة. كنا نصور يوميا لم نكن نعرف ماذا سيحدث من لحظة لأخرى، وهكذا صورنا مشاهد لبنات يتحدثن مع بعضهن عن حياتهن، وكيف يرين الشباب.
* إصراركِ في أعمالك على زرع الأمل والتفاؤل والذي نجده متجاوبا تماما مع روح الأطفال في هذه الأعمال. هل هو تكريس لحال تعيشينها؟ أم هو محاولة لكسر حال التشاؤم التي يعيشها الإنسان العربي؟
- هناك مزج بين الواقع والتمني، هناك أمل دائما حتى في اليأس والإحباط، من هنا يأتي دور المخرج، وكيفية إيصال العمل إلى المشاهد. إذا كان المخرج متشائما يخرج عملا بالصورة نفسها، لكن بنتيجة مختلفة. أنا أملك رؤية ما والعمل الفني هو انعكاس لرؤيتي، والسينما وجهة نظر، ليست نقل آلي للواقع، وليست هناك حقيقة مجردة، هناك شعور خاص للمخرج، يتفاعل مع الشخصيات ويختارها، أنا اخترت هؤلاء لأنني أحس أنهم يعبرون عني، يتحدثون باسمي، كلامهم يعني لي فسحة الأمل الموجودة فيهم على رغم أن حياتهم صعبة، حتى أنكِ عندما تسأليهم عن شعورهم، يقولون لكِ إن محبطون، إنهم يعيشون ازدواجية. وبنيت الفيلم على هذا المزاج، تريهم باللحظة نفسها، يعيشون حالتين معا، هناك مشاهد نضحك فيها، ثم يتحول إلى بكاء كما في مشهد الرسالة في أخر فيلم «أحلام المنفى» إذ بكينا جميعا أنا والمصور ومهندس الصوت... إلخ، صعب أن تجدي طفلا لا يملك الأمل، لهذا أتعامل مع الأطفال بالحال الجميلة كلها والشفافية والصدق.
* في فيلمك «أحلام المنفى» كسرتِ النمط التقليدي للعرض عن مشكلات اللاجئين والواقعين تحت الاحتلال، إذ عرضتِ الفضاء الداخلي مع تصويرك للفضاء الخارجي، وهو السجن، والمخيمات المحاصرة. هل كانت هناك صعوبة في هذا الخلق؟
- هناك إدراك مسبق للتناغم بين الفضاء الداخلي للأطفال وبين الواقع، أنا يشدني هذا الموضوع خصوصا في المخيمات، فالأطفال خيالهم واسع ومختلف عن البيئة التي يعيشون فيها، الحلم يحررهم من هذا البؤس، يخلق شيئا جديدا عندهم، مثلا منى عندما تتحدث عندها بلاغة قوية في حديثها كلامها هو شعر، تقول إنها تتخيل البحر مرات، وعندما تتخيل البحر تريد أن تراه أمامها، صورتها في الفيلم وهي تتحدث عن البحر، ثم وضعت الواقع، صورة المجارير في المخيم، هذا أوصلني إلى شيء أخر، حاولت أن أعبر عنه في فيلم «أطفال شاتيلا» وهو العلاقة بين ذاكرة أجدادهم والخيال خاصتهم، كيف يستطيعون التعبير عن هذه الذاكرة المتوارثة، إنها مسألة هويتهم، هنا يلعب الفضاء الداخلي والخيال الذي يربط الذاكرة بالهوية دورا مهما جدا، أردت أن أعبّر بشكل عفوي، وأن أدعهم يعبرون كما يريدون، لأن السينما هي أن تعرفي كيف تقدمين العمل العفوي، ولا يشعر المشاهد بالتصنع.
* الرواية والتوثيق يتداخلان في روح واحدة داخل أعمالكِ حتى لا نعلم أين يكون الفصل. كيف استطعتِ الربط بينهما؟ وهل تعتبرينها تجربة تلبي ما تحلمين به؟
- الفيلم ليس قطعة جامدة، إذ يمكن لك أن تجربي فيه، أعتقد أن من الظلم أن نسمي هذا الفيلم بالوثائقي أو التسجيلي، إنه قريب إلى الرواية، لكنه ليس قصة، هو رواية الواقع، في مثل هذا النمط تستطيعين أن تقدمي الكثير من الواقع بقالب قصصي، أنا أراها قصة تحصل في الواقع لها شخصيات حقيقية موجودة في كل لحظة.
* خلال تجربتك بالعمل السينمائي الذي قمتِ به داخل الأراضي المحتلة وفي المخيمات، هل تعرضتِ للمضايقات من قبل الاحتلال؟
- أريد أن أحدثكِ عن البدايات. في فيلم «جبل النار» كانت التجربة الأولى والأسعد بالنسبة إليّ لأن التصوير كله تم خلال منع التجول وبشكل سري، كانت هناك صعوبات كبيرة، بالمقابل وجدت دعما كبيرا من الناس، والشيء الأساسي أن يكون الناس معك، أنا أحب أن أعمل ضمن هذا الجو، جو التعاون. مكان التصوير كان في نابلس، وأنا من هناك لدي أقرباء كثيرون فيها، وعرفت الكثيرين منهم خلال تصوير الفيلم. أنا لا أعرف نابلس، كنت طفلة عندما تركناها، وعدت لأكتشفها خلال عملي في فيلم «جبل النار» وخلال أصعب الظروف التي مرت فيها ايام الانتفاضة الأولى، وخرج العمل بشكل جميل لأنه عبّر عن الظروف القائمة، والتصوير كان سرا من وراء الشبابيك، وسط لحظات الخوف ولضغط النفسي، حتى أصبح العمل كأنه يوميات كل لحظة بلحظة، هذه التجربة من أقوى التجارب التي عشتها لأنني تعرفت على مدينتي بظروف صعبة جدا، لكن هذه الظروف تجعل الناس تشد على بعضها البعض أكثر، هناك روح عالية جدا في الانتفاضة الأولى، المساعدة والتعاضد الكبير بين النساء وبين الأطفال، لأن الرجال كانوا في السجون، كانت النساء يلعبن دورا كبيرا وكذلك الأطفال في الانتفاضة، وهذا من أهم الأشياء التي جعلتني أختار موضوع الأطفال.
في تجربة «أحلام المنفى» تغير الوضع أصبح التصوير في الداخل أصعب لأنه مجرد أن تحمل كاميرا تصبح هدفا للاسرائيليين، إذا نظرات إلى الإحصاءات تجدين أن هناك حوالي 60 70 صحافيا أصيب، وعدد منهم قتل، كل زملائي تعرضوا للضرب. لا يوجد أحد إلا وتعرض إما لإصابة وإما اعتقال، وإما لمضايقات كبيرة، أنا أصبت بطلق مطاطي في قدمي، وهو لا شيء بالنسبة إلى غيري.
* عرضتِ أعمالك في بلدان أجنبية كثيرة. إلى أي مدى لمستِ تجاوب المشاهدين مع ما قدمته اعمالكِ؟
- كل الأفلام التي قدمتها عُرضت في الخارج وفي التلفزيونات العالمية وفي بلدان منها اليابان وانجلترا وفرنسا... وبشكل أقل في أميركا، لكن في أميركا، كانت لنا تجربة جديدة إذ عرضت الأفلام في الجامعات الأميركية، وكذلك الحال في كندا أيضا، و«أحلام المنفى» عرض على التلفزيون الأميركي في 35 محطة.
بدت التجربة قضية مهمة لأنها جديدة عليهم، وبعضهم كان يبعث الرسائل عبر الإنترنت يريد أن يتعرف على الأطفال ويتواصل معهم، كانت ردود أفعالهم جميلة، الكثير من الأميركان لا يعرفون شيئا عن القضية الفلسطينية، أنا استغربت كيف استطاعوا أن يستوعبوا الموضوع، شعرت بأن الفيلم استطاع أن يوصل شيئا إنسانيا. هذا أهم شيء بالنسبة إليّ لأن هذا الشيء الإنساني هو الذي يترك الأثر الأكبر
العدد 135 - السبت 18 يناير 2003م الموافق 15 ذي القعدة 1423هـ