العدد 179 - الإثنين 03 مارس 2003م الموافق 29 ذي الحجة 1423هـ

المشهد الزينبي في القاهرة يجتذب المريدين

في الميدان الذي يعرف باسمها الآن، والذي كان يعرف من قبل باسم قنطرة السباع نسبة إلى تلك القنطرة التي كانت مقامة على الخليج، الذي كان يخرج من نهر النيل وينتهي عند مدينة السويس الحالية، يبدو مشهد السيدة زينب مثل تحفة معمارية رائعة الجمال وسط القاهرة الفاطمية القديمة، يجتذب ببهائه وألقه العشاق والمريدين من محبي آل البيت الكرام (ع).ولم يحب المصريون أحدا مثلما أحبوا آل البيت، وخصوصا السيدة زينب بنت الإمام علي (ع)، نظرا لما لاقته من عسف في حياتها بالعراق التي شهدت فيها وقائع مقتل اخيها الحسين (ع) في واقعة كربلاء، وسبيها على يد يزيد بن معاوية، حتى مجيئها الى مصر، واقامتها في رعاية أهلها. وكان ضريحها ومكان إقامتها عندما وفدت إلى مصر، يقع في الجهة البحرية من دار والي مصر مسلمة بن مخلد الأنصاري، الذي استقبلها وجموع المصريين على حدود البلاد الشرقية عند مدينة العريش قادمة من دمشق، وكانت الدار تشرف على الخليج. غير أنه وبمرور السنين اندثر جزء كبير من الدار إلا ما كان من الضريح الطاهر، الذي كان ومازال، موضع تبجيل واحترام الخاصة والعامة من الناس، الذين كانوا يتعهدونه بالتعمير والإصلاح وبناء ما يتصدع من جدرانه.

المشهد عبر العصور

وفي زمن دولة أحمد بن طولون، جرى على هذا المشهد الطاهر، ما جرى على المشاهد الأخرى من عمارة وترميم. فلما جاءت الدولة الفاطمية، كان أول من بنى عمارة جليلة عظيمة على هذا المشهد من خلفاء الفاطميين، أبو تميم معد نزار بن المعز وذلك في سنة 369 هجرية 1005 ميلادية. وذكر الرحالة الأديب، أبو عبدالله محمد الكوهيني الفارسي الأندلسي، أنه رحل الى القاهرة في العام 396 هجرية، فدخل مشهد السيدة زينب فوجده داخل دار كبيرة وهو في طرفها البحري، يشرف على الخليج: «فنزلنا اليه مدرج، وعاينا الضريح، وشممنا منه رائحة طيبة، ورأينا بأعلاه قبة من الجص، وفي صدر الحجرة ثلاثة محاريب، وعلى كل ذلك نقوش في غاية الإتقان، ويعلو باب الحجرة (زليخة) قرأنا فيها بعد البسملة: هذا ما أمر به عبد الله ووليه أبو تميم أمير المؤمنين الإمام العزيز بالله صلوات الله تعالى عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه المكرمين، أمر بعمارة هذا المشهد على مقام السيدة الطاهرة بنت البتول، زينب بنت الإمام علي بن أبي طالب، صلوات الله تعالى عليها وعلى آبائها الطاهرين وأبنائها المكرمين».

وفي أيام الحاكم بأمر الله، أمر بإثبات المساجد والمشاهد التي لا غلة لها ولا ريع، وأوقف عليها عدة ضياع و«قيساريات»، وقد خص المشهد الزينبي بنصيب وافر من هذه الاوقاف. وما برح كذلك الى أن انتهت الدولة الفاطمية وزالت دولتها، وظل هذا المقام الطاهر موضع عناية الدول التي تعاقبت الحكم في مصر. كما قام عديد من أهل الفضل والعلم والولاية، يتناوبون خدمة المسجد، ومن أجل هؤلاء قدرا وأعظمهم ذكرا، السيد العارف بالله محمد بن أبي المجد القرشي المعروف بسيدي محمد العتريس المتوفي في أواخر القرن السابع الهجري، وهو شقيق القطب الكبير العارف بالله سيدي ابراهيم الدسوقي، صاحب المقام الكبير المشهور بمدينة دسوق بمحافظة كفر الشيخ، وكذلك السيد العارف بالله سيدي محمد العيدروس، وقد دفن كلاهما أمام المقام الزينبي الطاهر من الجهة البحرية.

وفي القرن السادس الهجري أيام الملك العادل سيف الدين أبي بكر ابن أيوب، أجرى أمير القاهرة ونقيب الاشراف الشريف فخر الدين الجعفري، عمارة واصلاحا على هذا المشهد الكبير. وظلت تلك العمارة قائمة على هذا المشهد المبارك، إلى أن كان القرن العاشر الهجري، فاهتم الأمير علي باشا الوزير والي مصر من قبل السلطان سليمان، بتعمير المشهد وتشييده، وجعل له مسجدا يتصل به، وكان ذلك في سنة 1156 هجرية (1743 ميلادية).

وفي سنة 1174 هجرية 1760 ميلادية، أعاد الأمير عبد الرحمن كتخدا بناء المسجد وتشييد أركانه، وأنشأ به ساقية وحوضا للطهارة والوضوء. وفي سنة 1210 هجرية (1795 ميلادية) جددت المقصورة الشريفة التي تحيط بالتابوت الطاهر المقام فوق القبر، وصنعت من النحاس الاصفر، ووضع فوق بابها لوحة نحاسية كتب عليها: يا سيدة زينب يا بنت فاطمة الزهراء مددك، ومازالت اللوحة على الضريح الشريف حتى اليوم، وحدث بعد سنتين أن تصدعت جدران المسجد، فانتدبت حكومة المماليك، عثمان بك المرادي لتجديده واعادة بنائه، فابتدأ في هدمه وشرع في بنائه وأقام أعمدته، الا أن العمل ما لبث أن توقف بسبب الحملة الفرنسية على مصر. وبعد خروج الفرنسيين من البلاد استؤنف العمل الا أنه لم يتم، فأكمله بعد ذلك يوسف باشا الوزير سنة 1216 هجرية (1801 ميلادية) وأرخ ذلك بأبيات من الشعر خطت علي لوح من الرخام.

وأصبح المسجد محل رعاية حكام مصر من أسرة محمد على، فظل التعمير والتجديد يدخلان عليه. ففي سنة 1270 هجرية (1853 ميلادية)، شرع الخديوي عباس باشا الاول في إصلاحه ووضع حجر الاساس، ولكن الموت عاجله، فقام الخديوي محمد سعيد باشا في سنة (1276هـ/ 1859) باتمام ما بدأه سلفه، وكتب على باب المقام الزينبي:«يا زائريها قفوا بالباب وابتهلوا/ بنت الرسول لهذا القطر مصباح» والمسجد القائم حاليا تم بناؤه على مراحل ثلاث، فبنى الجزء الأول منه المطل على الميدان المعروف باسم ميدان السيدة زينب في عهد الخديوي توفيق، وتم ذلك في سنة 1302 هجرية (1884 ميلادية)، وكتب على أبواب القبة الشريفة التي تضم الضريح الطاهر للعقيلة زينب رضي الله عنها، أبيات من الشعر: «قف توسل بباب بنت علي/ بخضوع وسل إله السمــاء/ تحظ بالعز والقبول وأرخ/ باب أخت الحسين باب العلاء»

أيام فاروق وعبد الناصر

وظل المسجد على تلك الحال حتى أدخلت عليه اضافات جديدة وذلك بتوسعة من الجهة القبلية تبلغ مساحتها حوالي 1500 متر مربع تقريبا، وقد تم ذلك في عهد الملك السابق فاروق الاول وافتتح للصلاة في يوم الجمعة 19 ذي الحجة 1360 هجرية (7 يناير/كانون الثاني 1942 ميلادية)، ولما رأت حكومة الرئيس جمال عبدالناصر زيادة اقبال الناس على هذا المسجد حتى ضاق عن أن يتسع للآلاف منهم وخصوصا في أيام الجمع والأعياد، أمرت باجراء توسعة عظيمة على هذا المسجد من الجهة القبلية أيضا، وضمت اليه مساحة تقدر بحوالي ألفين وخمسمئة متر مربع، وبذلك اتصل المسجد الزينبي بمسجد الزعفراني المجاور له من الناحية القبلية. كما أقيمت به دورة مياه كبيرة للطهارة والوضوء، بها تسعون صنبورا للمياه، وأعدت كذلك مكتبة كبيرة تضم عشرات الآلاف من المجلدات، من بينها الكثير من المخطوطات النادرة، وألحق بها قاعة فسيحة للمطالعة. وتبلغ مساحة المسجد وملحقاته حاليا حوالي سبعة آلاف مترمربع، وتشرف واجهته الرئيسية على ميدان السيدة، وبهذه الواجهة ثلاثة أبواب تؤدي الى داخل المسجد مباشرة، زينت من كلا جانبيها وفي مستوى قامة الانسان ونظره بآيات قرآنية منقوشة على الحجر بخط الثلث الجميل، كما زين أعلى الابواب بالآيات القرآنية وبأبيات من الشعر، ويعلو الجزء الواقع أمام المحراب منور - شخشيخة - بها نوافذ زجاجية، زينت جدرانها الداخلية بالنقوش الملونة، وكتبت حولها آيات شريفة، وكذلك بعض أبيات شعر من قصيدة بردة المديح للإمام البوصيري، وكل ذلك داخل عشرين إطارا، بكل جدار خمسة إطارات. وأخيرا خضع المسجد للترميم على أيدي خبراء متخصصين في العمارة الاسلامية، وقام طلاب قسم العمارة بكلية الفنون الجميلة بمجهود رائع في إعادة جدران المسجد وواجهته على الميدان الى طبيعتها، كتحفة معمارية رائعة الجمال، بما يليق بمكان يحمل رفات حفيدة الرسول الكريم وابنة الامام الشهيد

العدد 179 - الإثنين 03 مارس 2003م الموافق 29 ذي الحجة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً