ان اميركا، كما يقول جورج بوش دائما لمواطنيه، في حال حرب. ويحب بوش تصوير نفسه نسخة حديثة من تشرشل مدركا الخطر الكبير الناجم عن مهادنة الطغاة. دعنا ننسى مع ذلك فكرة الدماء والعرق والدموع في الجبهة الداخلية الاميركية. لربما تكون اميركا متجهة نحو الحرب ولكنها بخلاف اية دولة اخرى في حال حرب على مدى التاريخ فإنها تقوم ايضا بتخفيضات ضريبية تصل الى 435 بليون جنيه.
ما الذي فعلته بالنسبة إلى الحرب؟ سأل محرر عمود في صحيفة «لوس انجليس تايمز» منذ فترة قصيرة. «لقد حصلت على تخفيض كبير في الضرائب وقمت بإرسال الفاتورة اليكم الا ان الحقيقة هي ان الفاتورة مازالت تأتي إليّ».
وعندما تولت إدارة بوش السلطة العام 2001 توقعت فائضا ماليا بحلول العام 2004 يقدر بحوالي 262 بليون دولار. وبعد عامين فإنها تتوقع عجزا يصل الى 307 بلايين دولار.
ان هذا التغيير السريع والكبير - الذي يعادل اكثر من 5 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي - ليست له سابقة في تاريخ الولايات المتحدة.
ويأتي مثل هذا التغيير قبل حساب كلفة الحرب على العراق (تشير التقديرات الى حوالي 100 مليون دولار) والرشوة التي تقدر ببلايين الدولارات التي تم تقديمها لكسب تأييد تركيا وحلفاء آخرين رئيسيين.
ان التخفيضات الضريبية لانعاش الاقتصاد هي اجراء قياس حتى لو كانت ستزيد من العجز على المدى القصير. فلا توجد سوى القلة التي تشكك في حاجة الولايات المتحدة الى دفعة قوية. فقد وصل الناتج المحلي الاجمالي في الربع الاخير من العام 2002 الى 0,7 في المئة وهو ادنى مستوى له في العام الماضي. ان المخاوف بشأن العراق والاحوال الجوية السيئة في الشمال الشرقي تعني ان مطلع العام 2003 سيكون ضعيفا. فقد انخفضت مبيعات التجزئة بنسبة 0,9 في المئة في يناير/كانون الثاني بينما انخفض مؤشر ثقة المستهلكين في جامعة ميتشيجان الى ادنى مستوى له الشهر الماضي منذ العام 1993.
ولأول مرة خلال ستة أشهر اتجه دليل المؤشرات الرئيسية الى الهبوط في فبراير/شباط الماضي.
ويشهد النشاط التجاري طيلة الوقت نوعا من العقبات عند ادخال استثمارات جديدة بينما بدأت طفرة اعادة التمويل - التي جعلت المستهلكين في أميركا وبريطانيا يزيدون من انفاقهم مستغلين ارتفاع قيمة عقاراتهم - تفقد قوتها. وتشير التوقعات الرسمية إلى أن النمو سيصل هذا العام الى 2,8 في المئة وهي النسبة نفسها التي وصل اليها العام الماضي. ولكن يجب عدم الاعتماد على هذه الارقام، فلربما ينتعش كل شيء بمجرد الانتهاء من مشكلة العراق. ان تحقيق نصر حاسم وسريع والاطاحة بصدام - كما تأمل إدارة بوش بقوة - سيؤدي الى تجديد الشركات لخططها الخاصة بالانفاق وعودة ثقة المستهلكين وانتعاش الاسواق واستمرار النمو.
وبعد ذلك ستلوح اقتصادات ريجان بعصاها السحرية وسيختفي العجز الفيدرالي وسيعيش كل فرد بسعادة بعد ذلك. ولكن الامر لا يبدو سهلا فمازالت اسعار الاسهم عالية على رغم الهبوط الكبير عن معدلاتها العالية في مطلع العام 2000. وعلاوة على ذلك فإن العراق قد يكون حجة مناسبة لعدم قيام الشركات بعمل أي شيء. ان عدم انتعاش استثمارات الشركات - قبل قيام بوش بالضغط على العراق - سبب قلقا لمجلس الاحتياطي الفيدرالي. واذا ما ادت الحرب الى زعزعة الاستقرار في الشرق الاوسط واطلاق العنان للارهاب فإن جميع الرهانات ستنتهي.
وهناك عامل آخر ايضا هو العجز الخارجي الذي يزيد على العجز الداخلي. ان العجز في الميزان التجاري الاميركي ليس امرا جديدا. ان التفسير المتلطف في الحكم بالنسبة إلى هذا العجز هو انه مع أن اداء الاقتصاد الاميركي لا يسير بشكل جيد فإنه يحقق نجاحا بشكل أفضل من الدول الاخرى. ان الصورة المفضلة في واشنطن المتمثلة في «اميركا تحمل عبء العالم» بدأت تترنح تحت ثقل عالم غير قادر على التحرك بسبب الركود الاقتصادي.
ليس مدهشا ان يقول وزير الخزانة الجديد جون سنو لنظرائه في مجموعة السبع ان تحمل الاعباء القديمة يسير على ما يرام. وليس مدهشا كذلك ان يثير الكثير من شركاء اميركا في الاجتماع الذي عقد في باريس أخيرا صورة اخرى قديمة تعود الى الاضطرابات المالية والاقتصادية التي حدثت في السبعينات والثمانينات - العجز المزدوج لفترة حرب فيتنام والفترة التي تلت الحرب مباشرة. فقد حدث آنذاك عجز تجاري كبير وعجز في الموازنة في آن واحد واصبح نظام العملة العالمي في حال من الفوضى.
وكعجز الموازنة. فإن العجز التجاري اليوم اكبر مما كان عليه منذ ربع قرن اذ وصل العجز الى 44,2 بليون دولار في ديسمبر/كانون الاول فقط - بزيادة 10 في المئة على نوفمبر/تشرين الثاني - حتى مع انخفاض الدولار مقابل العملات الرئيسية الاخرى الذي جعل السلع الاميركية اكثر تنافسية.
كما ان عجزالحسابات الجارية الذي يشمل الارباح على الاستثمارات كان اعلى طبقا لتقديرات UBS وربيرج، اذ وصل العجز الى 5 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي او 500 بليون دولار.
ان ما يمكِّن اميركا حاليا من العيش بالطريقة المعتادة هو التدفق الصافي لرأس مال يبلغ 1,5 بليون دولار يوميا الذي يأتي من بقية دول العالم. وأبلغ المتنبئ الاقتصادي ألن جرين سبان اللجنة المالية التابعة لمجلس الشيوخ في 11 فبراير الماضي بأن الامور لا يمكن ان تستمر على ما هي عليه الى ما لا نهاية.
كان هذا الشخص الغامض عادة - رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي - مثالا للوضوح عندما رفض صفقة تحفيز الاقتصاد بقيمة 690 بليون دولار. قال جرين سبان: في رأيي ان صفقة التحفيز المالي سابقة لأوانها. وحذر ايضا من ان العجز التجاري وعجز الموازنة الحالي لا يمكن ان يستمرا بالمعدل نفسه في النهاية. فإذا لم تتم السيطرة على هذا العجز فإن العجز الفيدرالي سيصل الى نقطة اللاعودة بالطريقة نفسها التي تواجه بها الولايات المتحدة مشكلة المعاشات والاعانات عندما يبدأ الصغار في الوصول الى سن التقاعد. ويشكل العجز التجاري مصدر قلق مماثل ايضا. لقد كان التعديل في قيمة الدولار يسير بشكل منظم نسبيا حتى الآن ولكن جرين سبان يقول إن هناك سيناريوهات اخرى تنطوي على بعض المشكلات. ان الطريقة التي ستسير عليها التعديلات غير واضحة أما حدوث هذه التعديلات فهو حتمي. واثارت تعليقاته التي قال فيها ان تخفيض الضرائب امر غير مرغوب فيه، سخط البيت الابيض، ما ادى الى تسرب انباء عن ان الرئيس الاميركي الغاضب قد لا يعيد تعيين جرين سبان رئيسا لمجلس الاحتياطي الفيدرالي لمدة عامين آخرين عندما تنتهي فترته الحالية في هذا المنصب العام 2004.
ولكن الاستياء لا يبعد السيناريو المخيف وهو ان المستثمرين الاجانب - الذين استثمروا مئات البلايين من الدولارات في اميركا لاعتقادهم ان الولايات المتحدة تتمتع بأكبر اقتصاد ديناميكي في العالم وتعطى أفضل العوائد - لم يعودوا راغبين في تمويل العجز بأسعار الصرف الحالية على الاقل.
وقد تؤدي مثل هذه المرحلة إلى حدوث حلقة مفرغة إذ يصبح المستثمرون اكثر حذرا عند احتفاظهم بديون دولارية مع استمرار انخفاض العملة الأميركية. وسيؤدي هذا إلى تقويض الميزة الاستراتيجية لدور الدولار باعتباره عملة احتياطية. وفي هذه الحال يمكن أن تتعرض الولايات المتحدة للازمة المخزية نفسها التي تعرضت لها تايلند واندونيسيا والارجنتين وهي هروب رؤوس الأموال القصيرة الأجل وانهيار العملة.
هل سيكون موقف الولايات المتحدة «الإغفال اللطيف» للماضي والسماح للدولار بالهبوط ما قد يوجه ضربة قوية إلى احتمالات الانتعاش في قطاعات أخرى؟ وهل سيشعر مجلس الاحتياطي الفيدرالي بأنه سيكون مضطرا إلى رفع اسعار الفائدة وتوجيه ضربة قاضية إلى بورصة وول ستريت المتعثرة والانتعاش المتلاشي في سوق العقارات؟
هناك نقطة أخيرة تستحق الاهتمام. فعندما كانت بريطانيا القوة المهيمنة في أواخر القرن التاسع عشر كانت ايضا اكبر دولة دائنة في العالم. وتعتبر أميركا حاليا اكبر دولة مدينة في العالم. وسيأتي يوم تضطر فيه الولايات المتحدة التي اصبحت تسيطر على العالم إلى الاختيار بين المدافع والزبدة.
خدمة الاندبندنت - خاص بـ «الوسط
العدد 179 - الإثنين 03 مارس 2003م الموافق 29 ذي الحجة 1423هـ