المرة الأولى التي لفت فيها روبرت دي نيرو الانتباه وجعل الانظار تتوجه اليه كانت بعد عشر سنوات من أول محاولة له للظهور على الشاشة، بالتحديد في العام 1973، وذلك بعد ظهوره في فيلم Bang the Drum Slowly الذي اكسبه جائزة نقاد الأفلام بنيويورك لأفضل ممثل، وبعدها بسنة واحدة أي في العام 1974 ظهر دي نيرو في الجزء الثاني من فيلم The Godfather وهو الظهور الذي جعل منه ممثلا متميزا وأكسبه جائزة الأوسكار لأفضل ممثل مساند وجعل منه خلفا لمارلون براندي في نظر الكثيرين، وبعدها توالت النجاحات وتعددت الترشيحات والجوائز والتشريفات التي حصل عليها دي نيرو الأمر الذي أثبت جدارته وبراعته وتميزه بين نجوم جيله، فهو النجم الذي بهر الجمهور ولايزال كذلك من خلال جميع أفلامه تقريبا بادائه الصادق وتمكنه من تقمص اية شخصية فهو المجروح، وهو المهووس أو الشخص غير المتزن عاطفيا أو عقليا أو الشخص الغاضب أو شديد المراس وغير ذلك من الشخصيات التي يقدمها ببراعة ودقة وواقعية لا يمكن لاحد سواه ان ينقلها.
لا يمكن الجزم بأن جميع أفلام دي نيرو ناجحة وقوية لكن الامر الذي لا يقبل الجدل هو أن جميع هذه الأفلام تحمل بينها قاسما مشتركا يضفي عليها عنصر قوة الا وهو أداء دي نيرو وظهوره المتميز فيها. ومن الأفلام التي لام الكثيرون دي نيرو على قبوله لها والتي وصفها النقاد بانها أفلام حمقاء وهزيلة .Meet the Parents, Showtime, Rocky and Bullwinkle
في هذا العام يعود دي نيرو من جديد بفيلم يفترض به ان يكون قويا كما هي معظم أفلامه وهو فيلم City by the Sea، وأقول يفترض ذلك اذا اعتمدنا على ملصق الفيلم الذي يظهر فيه دي نيرو في لقطة توحي بقصة ذات حوادث مثيرة واذا اخذنا في الاعتبار طاقم الممثلين المشاركين وجميعهم ممثلون جيدون وبالطبع اعتمادا على اسم دي نيرو أولا وأخيرا. في هذا الفيلم يجتمع دي نيرو للمرة الثانية مع المخرج مايكل كاتون جونز وذلك بعد فيلم This Life Boy الفيلم الذي لم يحز اعجاب النقاد كثيرا. الفيلم الجديد مبني على القصة الواقعية لروبرت لاماركا كما تم توثيقها في مقالة صحافية نشرت في مجلة اسكواير الأميركية في سبتمبر/ أيلول 1997 بعنوان علامة قاتل Mark of a Murderer، وقد كتبها كاتب الأعمدة الفائز بجائزة بوليتزر للكتابة الصحافية مايك ماكلاري، وتتحدث المقالة عن توارث جينة القتل في عائلة لاماركا، إذ بدأت بالاب روبرت وانتقلت الى الحفيد «جوي».
روبرت دي نيرو هو فينسنت لاماركا ابن روبرت لاماركا بطل مقالة ماكلاري، وهو محقق من شرطة نيويورك صنع اسما لامعا له بسبب اخلاصه وتفانيه في عمله... تقوده الصدف إلى المدينة الساحلية لونغ بيتش للتحقيق في جريمة قتل، ولونغ بيتش هي المدينة التي يحمل الفيلم اسمها، مدينة عند البحر وقد كانت مدينة سياحية مهمة في فترة الخمسينات والستينات لكنها تحولت الآن الى مدينة أشباح هجرت شواطئها وأصبحت شوارعها مهلهة وتمتلئ بالمتشردين ومتعاطي المخدرات، أما بالنسبة إلى دي نيرو فهي المدينة التي شهدت طفولته والحادثة الأليمة التي مرت به حين اعدم والده بعد اختطافه وقتله طفلا والذي كان أول من أعدم بالكرسي الكهربائي في مدينة لونغ بيتش وهي أيضا المدينة التي هجرها فينسنت منذ فترة طويلة بعد طلاقه من زوجته السابقة ماغي (باتي لابون)، تاركا فيها ابنه جوي (جيمس فرانكو) الذي كان طفلا حينها. وقد كان اختيار المخرج لهذه المدينة موفقا إلى حد كبير فهو يدعونا من خلال هذا الاختيار لعقد مقارنة بين حال المدينة وحال فينسنت فكلاهما مر بفترات سعادة وكلاهما فقد هذه السعادة والبهجة وكلاهما يخبئ الكثير بين زاوياه.
يبدأ الفيلم بمشهد قديم للمدينة في أوج تألقها وبأغنية قديمة تعود الى الخمسينات تأكيدا على ان الصورة تعود إلى تلك الفترة، وتأخذنا الكاميرا إلى سواحل المدينة الجميلة وهي تكتظ بالسياح وفجأة ننتقل إلى مشهد آخر يصور لنا ما آلت اليه الأمور في هذه المدينة، إذ تحولت الشوارع الأنيقة الى شوارع رثة بالية وأصبحت السواحل المكتظة بالسياح مهجورة وتمتلئ بالقاذورات وبدلا من أفواج السياح التي تملؤ المدينة أصبحت تمتلئ بالمتشردين وتجار المخدرات ومتعاطيها. بعدها نرى شابا في مقتبل العمر (نعرف بعدها انه جوي الابن) يحاول بيع غيتاره ليحصل على المال من أجل شراء المخدرات، حاله مزرية، وإلى حد ما نتألم من أجله بسبب الأداء الجيد لجيمس فرانكو الذي اشتهر بادائه لدور المراهق الشرير في أعمال مثل Freaks and Geeks والذي تألق سابقا في فيلم James Dean وحصل عنه على جائزة الكرة الذهبية. هنا ينقل لنا جيمس حال اليأس والعوز الشديد التي يعيشها جوي بصدق وواقعية تتضحان على قسمات وجهه ومن خلال عينيه الكئيبتين المحاطتين بهالات سوداء.
الكآبة التي تسود المشاهد الأولى تنقل لنا صورة مماثلة للكآبة التي تملؤ قلب فينسنت الذي ظل هاربا من المدينة والذي اعتبر دفعه للعودة الى المدينة هو اجبار له للعودة الى ماضيه المؤلم. يعود فينسنت ليفاجئ بأن المتهم الرئيسي في جريمة القتل ليس سوى ابنه جوي الذي تركه منذ سنوات وها هو الآن يعود اليه مرغما ويعود لكل ما كان يحاول تجنبه وتحاشيه لفترة طويلة ولكل ما ظل يخفيه حتى عمن يفترض ان تكون أقرب الناس اليه وهي صديقته ميشيل (فرانسيس ماكدورمند). تعود اليه ذكريات والده الذي لاتزال قضيته تشكل مصدر ازعاج وأذى لفينسنت، ويجد نفسه في مواجهة جوي الذي تركه منذ كان طفلا، إذ تسبب له ذلك في حزن وأسى شديدين حاول اخمادهما مع الوقت وتصور انه نجح. تتسبب القضية في صراع لفينسنت يتمكن دي نيرو من نقله لنا بشكل رائع من خلال واقعيته في الأداء فهو لا ينفعل ولا يحاول اظهار مشاعره بل يكتمها مما يجلعنا نعتقد انه لا يبالي لكننا اذا أمعنا النظر في قسمات وجهه ونظرات عينيه وجدناها تمتلئ بالحزن والألم وعرفنا انه واقعي فذلك هو ما يفعله الناس عادة، ولا يكتفي دي نيرو بواقعيته تلك بل انه بتحكمه في عضلات وجهه استطاع ان ينقل لنا الألم الشديد الذي يعتريه فهو على رغم رغبته في كتمان الألم الا ان ألمه فوق الاحتمال، ما يجعل كل تقاسيم وجهه تنطق به على رغم محاولات صاحبه في اخماده.
بصفته شرطيا يجب عليه ان يساعد العدالة على ان تأخذ مجراها ويلقي القبض على ابنه، وبصفته أبا عليه أن يجد طريقة لانقاذ ابنه، يختار دي نيرو المخاطرة بحياته لانقاذ عائلته والالتزام بواجبه الوظيفي. الفيلم عموما يمثل عملا جيدا لكنه لا يحمل اي تميز سوى الأداء الرائع لممثليه فإلى جانب دي نيرو كان هناك جيمس فرانكو الممثل الموهوب الصادق في أدائه بشهادة الكثيرين من نقاد وممثلين أو حتى مشاهدين وليس أدل على هذا من ترشيح دي نيرو له ليشاركه هذا الفيلم، وكذلك فرانسيس ماكدورماند وهي الممثلة البارعة ذات الأداء الواقعي الذي لا تكلف فيه، وجورج دزندا الذي يلعب دور ريج زميل فنسنت في العمل وصديقه المقرب، وجورج مشهور بأداء أدوار الصديق الطيب، وهو الدور الذي لعبه هنا بشكل جيد.
مايكل كاتون جونز مخرج قدير فقد قدم أفلاما مثل The Jackal, Doc Hollywood, Rob Roy, Memphis Belle, وهو هنا يقدم فيلما جيدا الى حد ما هذه المرة، لكنه يعجز عن أن يجعلنا نعيش مع فيلمه ويعجز عن تقريب المسافة بيننا وبين القصة فنحن دائما خارج الشاشة سواء بسبب النص أو بسبب تقنيات التصوير، وحتى تفاعلنا مع المشاهد يظل سطحيا ونبدو كأننا لا نأبه بمعظم الحوادث لدرجة اننا لا نتعاطف مع اي من الممثلين الذين يعانون جميعا ولا نأبه لمعاناتهم كثيرا لأننا لا نعرف سوى القليل عنهم.
كما ان القصة الواقعية مختلفة إلى حد كبير عن قصة الفيلم إذ إن فينسنت لاماركا كان متقاعدا في الوقت الذي حدثت فيه جريمة ابنه، كما ان جوي ليس بريئا أو ان جريمته تمثل حادثا بل انه في الحقيقة قام بجريمته مع سبق الاصرار والترصد، هذا بالاضافة الى عدم وجود بعض الشخصيات التي وردت في الفيلم في واقع الأمر مثل شخصية سبايدر التي قام بها ويليام فورسيث.
الفيلم على رغم كل الوجوه وعلى رغم قوة الاداء يعاني من نص ممل لا يعطينا اي عمق سواء في المشاهد او فيما يتعلق بمشاعر الشخصيات وانفعالاتها. تغيير الوقائع وتحريفها ان لم يكن في هذه الكلمة اي مبالغة لم يتم ببراعة ولم يكن موفقا، ما جعل المطلعين على القصة الحقيقية يرفضون التغييرات.
لم يكن فيلما بمستوى ممثليه ولذا فلا عجب أن يتم تأخير عرضه سنة كاملة عن الموعد الأصلي، إذ كان من المقرر أن يعرض في دور السينما العالمية في سبتمبر 2002 لكن تم دفعه مرات كثيرة لتحل مكانه أفلام أخرى حتى تم عرضه أخيرا في سبتمبر 2003.
حسبما أرى لم يوفق كاتب السيناريو ولا المخرج ولا دي نيرو حين رفض فيلم Gangs of New York مفضلا واقعية هذا الفيلم التي لم تتمكن من التغطية على عوامل النقص الأخرى فيه، وفعل آل باتشينو الذي كان مرشحا لأداء دور دي نيرو خيرا حين رفض الدور لأي سبب كان
العدد 184 - السبت 08 مارس 2003م الموافق 04 محرم 1424هـ