ربما لا يفوت هذا التفكير على العقل عديم الرحمة لدى صدام حسين تماما عندما أجرى مقابلة مع مراسل قناة (سي بي اس)، دان راثر، الرجل الذي يجلس على الكرسي الذي تم شغله يوما ما بالنجم الأسطوري ولتر كرونكايت. المقابلة التي استمرت لمدة ثلاث ساعات ربما لا تنقذ العالم من الحرب.
هذه القناة التلفزيونية دائما تسعى إلى السبق الإعلامي إذ تضم مذيعين من النجوم البارزين أكثر من السياسيين ونجوم السينما.
وقد يتعجب الذواق الحقيقي للتلفزيون الأميركي ما الفرق بلغة إغراء المغامرين بين نجم السينما (راثر) المتهم بجريمة قتل واحدة (زوجته) وحاكم أجنبي معروف بارتكاب ملايين الاغتيالات. أليس ستالين الذي قال «إن جريمة قتل واحدة هي مأساة، ومليون جريمة قتل إحصائية مفردة». ولكن في بلاد الاهتمام الواسع فإن الاستثناء هو صدام.
تعتبر متحويات مقابلة راثر خطيرة بشكل مهلك، وهذا من المحتمل هو السبب الذي جعل التلفزيون العراقي الذي سجل المقابلة لم يعد مقتطفات متاحة لتبثها (سي بي اس) على الهواء كما وعد بذلك، كما لم توفر نسخة منها بواسطة العراقيين في وقت كتابة فقرات المقابلة. إذ تسعى إدارة وسائل الإعلام العراقية دائما إلى أن تكون متميزة، ولم يكسب صدام سمعته المؤذية من خلال المؤتمرات الصحافية التي يعقدها أسبوعيا. ومع ذلك لم تحصل مشكلات «تقنية» مثل التي حدثت لهذه المقابلة في اللقاء الذي أجراه مع السياسي البريطاني في الجناح اليساري، طوني بن وذلك قبل لحظات من التصريحات التي نحن بصددها.
المشكلة الحقيقية التي يفترضها المرء تحيط بالفقرة الرئيسية من مقابلة راثر: إشارة صدام إلى أنه لن يدمر صواريخ الصمود 2، التي طلبت الأمم المتحدة التخلص منها بحجة أنها تتجاوز المدى الأقصى المسموح به وهو 150 كلم.
إن الإجابة القاطعة بـ «لا» جديرة بختم مصير صدام وهي توفر حجة تجد حتى فرنسا وألمانيا صعوبة في دحضها بأنه في اختراق مادي لالتزاماته. في الواقع، كانت لغة صدام التي نقلتها (سي بي اس) أكثر من كونها عثة غامضة.
قال صدام: «سمح للعراق بعمل صواريخ مشروعة ونحن ملتزمين بذلك». وعندما سأله راثر عما إذا كانت «الصمود 2» شرعية، أجاب صدام: «نحن لا نملك صواريخ تفوق المدى المسموح به»، هل تلك الإجابة نعم، لا أو ربما؟
وقد جزم المتحدث الكبير باسم النظام الجنرال، عامر السعدي بأن بغداد لم تقرر بعد وأنه «مازال موقفنا تحت الدراسة». وأكد البقية أنه عندما يتخذ القرار فإن تصريحات صدام لقناة (سي بي اس) ستكون منسجمة معه.
طبعا الاحتمال المثير حقيقة هو اقتراح صدام بإجراء مناظرة مع جورج بوش الذي تمت إذاعته في جميع أنحاء العالم. ولا حاجة إلى القول إن البيت الأبيض مفسد المتعة أجهز على قتل الفكرة في مهدها، وأن رؤساء الولايات المتحدة لا يفعلون مثل هذا النوع من العمل ـ أي المناظرة ـ على رغم أن بعض الأعمال الطائشة لميل بيل كلينتون تذهل الإنسان.
ما يقوله الرئيسان في المناظرة يمكن أن يتصوره الإنسان. في البداية ستكون هناك الترتيبات التقنية. هل سيجري اللقاء بواسطة مؤتمر مسجل بالفيديو أو سيكون نقل مباشر في استوديو؟ وإذا كان الاختيار الأخير (بث مباشر) فأين؟ من الواضح استبعاد بغداد أو واشنطن. ربما سيكون في مكان محايد مثل جنيف (التي التقى فيها وزير الخارجية الأميركي السابق جيمس بيكر ووزير الخارجية العراقي آنذاك طارق عزيز من أجل إجراء محادثات فشلت في تجنب حرب الخليج في العام 1991) أو في جنينة استوائية تمنح الطرفين الراحة التي يحتاجان إليها.
إذا مَنْ الذي سيتوسط بينهما؟ ومن سيسهل المهمة ليصلا إلى اتفاق؟ فقد تضاربت الآراء في ذلك. هل سيكون المستشار الألماني أو الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان، فالهيئة الدولية للأخير لها صدقية في هذا الشأن. لن تحدث تلك المناظرة، ولكن تقديم صدام للمقترح كان جديا إذ قال: «هذا اقتراح جاد من أجل احترامي للشعب الأميركي. إنني أدعو إلى المناظرة لأن الحرب ليست لعبة. وبوصفنا زعماء لماذا لا نستفيد من مثل هذه الفرصة؟».
وبينما الرأي العالمي يلتمس طريقا غير الحرب، تبدو المبادرة تحركا ذكيا، ولكن المشكلة الحقيقية مع صدام أن مبادراته تأتي متأخرة.
إنه لشيء فريد أن يشاهد صدام حسين مع المشبوهين العاديين ـ الأشخاص الذين يرفض البيت الأبيض وداوينغ ستريت اعتبارهم عملاء مسالمين ـ مثل جورج غلاوي، وطوني بين، والنائب العام الأميركي السابق، رامسي كلارك. مقابلة صدام مع (سي بي اس) هي الأولى مع شبكة تلفزيون رئيسية غربية منذ عقد من الزمان. إذا لماذا تأخر كثيرا طوال هذه الفترة؟ أليس من الأولى إجراء سبق إعلامي من شأنه تخفيض تشويه السمعة ويؤدي إلى تعاطف الرأي الغربي.
الآن يبدو أن القنوات الدبلوماسية باتت أمرا فات أوانه. لقد عزم بوش على قرار الحرب. وقبل صدام بأن الحرب أصبحت حتمية فهو يرى أنه مهما قام العراق به من عمل فإن الرئيس بوش سيهاجم كما قال كلارك الذي عقد جلسة خاصة مع صدام.
لذلك فإن مقابلة راثر (يفترض أنها بثت) ربما ترفع من أسهم ولكن لن تكون مقنطة لأولئك الذين يتشبثون بآخر بصيص من الأمل بأن يكون هناك حل سلمي للأزمة.
روبرت كورنويل - خدمة الإندبندنت - خاص بـ «الوسط
العدد 185 - الأحد 09 مارس 2003م الموافق 05 محرم 1424هـ