يظل التاريخ دائما عند النظرة الأولى وكأنه مكان للأشخاص العظماء فقط وللحوادث الحاسمة، ولكن لو ألقينا نظرة مقربة فسنكتشف بعض الحوادث والأشخاص الأساسيين الذين يختفون في الظلال. في الملحمة التي تتحدث عن عمالقة القرن العشرين سيجموند فرويد وكارل جنغ ـ مؤسسي مدرستين مختلفتين في العلاج النفسي، واللذين كانا في البداية كأب ووريثه لكنهما بعدها أصبحا خصمين شرسين ـ
هناك دائما ظلال لفتاة تبلغ من العمر 18 عاما تدعى «سابينا سبيلرين». في أغسطس/ آب 1904 أصبحت سبيلرين مريضة تتعالج لدى جنغ في مستشفى برغولزلي الشهير بزيوريخ، وبعدها أصبحت حبيبته، وخلال عشر سنوات أصبحت طرفا في الانفصال الجارح بين الرجلين.
لم تُعرف سوى بعض الحقائق عن سبيلرين التي أصبحت محللة ناجحة، ولكن كانت هناك دائما اشارات عن أهميتها في حياة كل من جنغ وفرويد. في العام 1977 تم اكتشاف جزء من مذكراتها وبعض رسائلها وجميعها بالاضافة الى الملاحظات الطبية التي كتبها جنغ عن حالتها تعطي توضيحا بسيطا للأمور. ولكن في هذا الوقت فقط نلحظ انبهارا جديدا بهذه المرأة بين الأكاديميين والكتاب. من الأعمال التي انتجت عنها كتاب سيصدر قريبــا بعنوانTribute to Sabina : Forgotten Pioneer of Psychoanalysis، وهناك فيلم ايطالي الانتاج عرض منذ وقت قصير بعنوان My Name Was Sabina Spielrein وهو من بطولة إيفا اوستربيرغ، بالاضافة الى مسرحية كانت تعرض منذ شهور على المسرح الوطني في انجلترا بعنوان The Talking Cure وهي من تأليف كريستوفر هامتون.
المرة الأولى التي أبدى فيها هامتون اهتماما بقصة سبيلرين في السبعينات كانت عندما كتب نصا لفيلم لم يتم تصويره بعد، عن دورها في قصة جنغ وفرويد. في مسرحيته، استخدم هامتون ببراعة مواد مجزأة من رسائلها ومن ملاحظات جنغ، مشكلا قصة مقنعة عن العذاب والقلق، والحب، والبقاء على قيد الحياة. ان عملية كشف بعض الاسرار التي قامت بها سبيلرين في الصراع بين العبقريين، وكذلك الأهمية المتزايدة التي أعطيت لامراة التاريخ المنسية، يفسران زيادة الاهتمام بقصتها.
كانت سابينا سبيلرين يهودية روسية، ولدت في روستوف اون دون العام 1887 من أبوين ثريين برجوازيين. كان والدها رجلا سيئا وكان كثيرا ما يثور غضبه فيلجأ إلى الضرب والتهديد بقتل نفسه، وذلك ليضبط زوجته وأولاده. في هذا المحيط الهستيري، أصبحت سابينا مضطربة عقليا حتى تم ادخالها الى مصحة نفسية وهي في منتصف سن المراهقة.
كانت مريضة صعبة ووجدت الكثير من المؤسسات صعوبة في التحكم فيها، واستطاع القليل منهم فقط مساعدتها. كانت إما مكتئبة وتمر بحال هستيرية أو تستحوذ عليها حال من الولع الجنسي بيدي والدها، التي كان يتوجب عليها هي وباقي اخوتها ان يقبلوها بعد ان يضربهم. وقد استجابت بطريقة عنيفة لكل محاولات مساعدتها، بحيث كانت تبدأ في العواء وليّ جسدها اذا تم ازعاجها.
في النهاية تم اخذها الى مستشفى بروغولزلي ووضعت تحت عناية جنغ. وفي الحال لاحظ انها شابة شديدة الذكاء وفصيحة، ولأنه كان واقعا تحت سحر نظريات سيجموند فرويد قرر ان يحاول الطريقة الفرويدية في العلاج بالحديث معها. في خلال عشرة شهور شُفيت سبيلرين، المشكلة الرئيسية لديها كانت هي الاحساس بالذنب بسبب الاثارة الجنسية التي كانت تشعر بها حين يضربها والدها. وسواء خلال العلاج أو بعد ذلك بوقت قصير فقد أصبحا هي وجنغ حبيبين.
كان تأثيرها على تفكير جنغ كبيرا، وكان وجودها في العلاقة بين جنغ وفرويد مهما على رغم انه غامض، ولكونها المثال الأول الذي يواجهه جنغ لمريض يستجيب للعلاج بطريقة العلاج بالحديث فقد أثرت على اتجاه نظرياته النفسية، اذ ساعدته في أحد بحوثه، واقترحت عليه مبدأ «الأنيما» وهو المبدأ الانثوي الذي يعتقد جنغ انه يؤثر على كل رجل بطريقة لاشعورية. وهكذا فإن علاقتهما لم تكن عاطفية فقط بل كانت عقلية أيضا.
ولكن لأنه انتهك الحظر الأخلاقي للجنس بين الطبيب والمريض، فقد كان جنغ خائفا من اكتشاف هذا الأمر، ما جعله ينهي العلاقة. في ذلك الوقت كانت سبيليرين قد حصلت على مؤهل في الطب من جامعة زيوريخ. كان انفصالهما عنيفا إلى درجة انها قامت بشطر وجه جنغ بسكين، وانتهى الأمر بسفرها الى فيينا للدراسة مع فرويد. وبدا ذلك لجنغ مثل اخلال بالولاء لأنه كان بدأ في ذلك الوقت شجاره مع فرويد.
بعدها اصيب جنغ بانهيار عصبي بسبب انفصاله عن فرويد. وعندما حدث ذلك انعكست الأدوار بين جنغ وسبيلرين التي كانت على وشك الحصول على عمل ناجح كمعالجة أطفال نفسية، واعتبرت اول امرأة تصبح عضوة في مجموعة فرويد، وقد درست وتدربت في مؤسسة جنيف روسو ثم تدربت في قسم علم نفس الأطفال بجامعة موسكو.
في عالم العلاج النفسي ليس من المعتاد أن يتحول المرضى الى معالجين. المرضى الأوائل وخصوصا النساء لدى جنغ وفرويد كن مهمات بشكل كبير لتطوير العلاج النفسي. قال فرويد إن التحليل النفسي بدأ عندما قام زميله جوزيف بروير بمعالجة بيرثا بابينهيم المعروفة بـ «آنا أو» باستخدام جلسات العلاج التي ابتكرتها هي نفسها مستبدلا اياها بعلاج بروير الاعتيادي للتنويم المغناطيسي. وكانت هي التي اعطت العلاج هذا الاسم «العلاج بالتحدث». خبرة فرويد مع المريضة التي اطلق عليها فرويد اسم «المعلمة»، آنا فون ليبين، اكدت قيمة طريقة العلاج بالتحدث. هؤلاء النساء ساعدن على اكتشاف التحليل النفسي، نساء اخريات اصبحن محللات نفسيات في مجالهن ونشرنه خارج فيينا. وأهم هؤلاء النساء هيلين دوتش في أميركا، والأميرة ماري بونابرت في فرنسا، وطبعا ابنة فرويد «انا» في انجلترا. سابينا سبيلرين كانت مؤيدة لها في سويسرا وروسيا.
دور سبيلرين في انفصال جنغ وفرويد مهم كما ذكرنا. إذ عندما التقى فرويد بجنغ للمرة الأولى اطلق عليه اسم وريثه، وبعد ست سنوات كان يهاجمه كشخص متوحش ومعادٍ للسامية وشكوك وغبي عاطفيا ويعاني من الكبت الجنسي. كان فرويد دائما عاجزا عن ضبط نفسه في عدائه للأشخاص الذين يعتبرهم خونة لقضيته، ولكن مع جنغ كان عنفه بلاحدود، لأن خيانته كانت خيانة وريث لمتبنٍ.
اخيرا التقى فرويد وجنغ في فيينا ربيع العام 1907، وذلك بعد عامين بعد ان كان جنغ قد انتهى من علاج سبيلرين بطرق فرويد. تحدثا في ساعات الصباح المبكرة وهو حدث صوره هامبتون بشكل جميل في مسرحيته. كان فرويد متلهفا لربط جنغ بقضيته، لأن الاخير كان له شأن في العلاج النفسي، ولم يكن يهوديا. كان هذان العاملان يشكلان عاملا جذب مهمين لفرويد، الذي تمنى ان يجعل التحليل النفسي محترما في خارج محيطه.
وليبدأ، كان جنغ سعيدا ليلعب دور بول بالنسبة إلى فرويد الذي كان يعتبره كالمسيح. كل ذلك خلال الوقت الذي كان فيه جنغ وسبيلرين حبيبين، وقادت طاقة جنغ على التحليل النفسي باتجاه الجدارة إلى الاحترام. وقد زار مع فرويد اميركا العام 1909 في جولة لالقاء المحاضرات، ونظم جنغ مؤتمرا عالميا عن علم النفس التحليلي في الكثير من المدن الأوروبية وهو المؤتمر الذي كان له صيت عالٍ.
ولكن جنغ كان له عقل مستقل بشكل كبير ما جعله يبدأ في معارضة آراء فرويد مدفوعا بمعتقداته. أما بالنسبة إلى أدلر، فقد كان هناك اختلاف رئيسي يتعلق بتأكيد فرويد الأهمية الأساسية للجنس. وقد بدأت الاختلافات بينهما أثناء رحلتهما الى اميركا، ولكنهما لم ينفصلا الا في العام 1913. في السنوات التالية المباشرة اصيب جنغ بانهيار عصبي بينما كان فرويد يهاجمه في كل فرصة مقنعة.
ستكون هذه القصة مقنعة بشكل كاف من دون سابينا سبيلرين. قبل اكتشاف مذكراتها ورسائلها التي كان لها دور هامشي فقط في القصة، ولكن عندما تم التركيز عليها بشكل أكبر اتضح انها ـ على أقل تقدير ـ كانت محور ابتزاز متبادل وغير مصرح به بين فرويد وجنغ، وربما كان لها تأثير مهم على تطور نظرياتهما اللاحقة.
نقطة الابتزاز المتبادل نقطة مثيرة. كان جنغ خائفا من أن يستخدم فرويد المعلومات التي لديه عن علاقته مع سبيلرين لتدميره. ولكن معلومات فرويد عن العلاقة كانت متوازنة مع معلومات جنغ في المقابل عن علاقة فرويد السفاحية باخت زوجته مينا بيرنايز.
جادل البعض بأن فرضية الابتزاز المتبادل غير حتمية على أساس ان الكثير من المحللين النفسين الاوائل كانوا يمارسون الجنس مع مرضاهم، وهو بكل وضوح يضع سابقة لكريستوفر اليسون، المعالج النفسي الذي سُجن في ديسمبر/ كانون الأول الماضي في وينشستر. فلماذا اذا يقلق جنغ من هذا الفضح؟ بالاضافة الى ذلك فإن مينا بارنيز كانت شقيقة زوجة فرويد، وهكذا كانت العلاقة علاقة سفاح. ولكن من الصعب تخيل كيف يمكن ألّا يشكل هذا الفضح للعلاقتين اية اهمية في اختلافهما، كما انه ليس من الضروري ان نفترض ان جنغ وفرويد هددا بعضهما علنا بهذا الأمر فتبادلهما معرفة أسرار بعضهما كان كافيا.
ان موقع سبيرلين المركزي في هذه الموازنة المزعجة سيكون كافيا لاثبات اهميتها. ولكن كريستوفر هامبتون وضع مزاعم كثيرة تفيد بأنها أوحت لجنغ مبدأ الأنيما، وانها اعطته فكرة اللاوعي الجماعي، وانها كانت مصدر نظرية فرويد عن الاتصال بين الجنس وأمنية الموت. هذه هي الأفكار الرئيسية في النظرية المتعلقة بالرجل، واذا كانت هي مصدرهم فإنها تصبح شخصية مبدعة مهمة في تطور العلاج النفسي.
من الواضح ان فرويد حاول ان يقلل ولاء سبيلرين لجنغ لكنه فشل في ذلك، فعلى رغم انها اصبحت محللة فرويدية فإنها لم تنسَ ابدا ان علاجها وبداياتها في الطب كانت مع جنغ، وكانت تأمل ان يتصالح الرجلان.
كانت حياة سبيلرين بعد ذلك ونهايتها مأسوية فلقد أصبحت ممزقة بين فرويد وجنغ، وكانت ستحطم بين ستالين وهتلر. عادت الى روسيا في العشرينات لتعمل في التدريس ولتمارس العلاج النفسي، ولكن العلاج النفسي كان ممنوعا من قبل ستالين، وهكذا قررت أن تعود إلى وطنها الأم روستوف لتعمل طبيبة. وهناك في العام 1942 كانت هي وابنتاها الاثنتان من بين الضحايا اليهود الذين تم ذبحهم من قبل جيش هتلر الغازي.
تنتهي مسرحية هامبتون عندما تصبح سبيلرين حاملا وهي في بدايات عملها المستقل، ويجعلها هامبتون تلتقي بجنغ للمرة الأخيرة على شواطئ ليك زيوريخ، وكان ذلك في العام 1913، إذ يخبرها بأنها كانت أعظم حب في حياته وأنه ما كان ليطور نظرياته من دونها. وسواء كان هامبتون محقا أم لا في النقطة الأولى، فإن الثانية قد تكون صحيحة.
خدمة الإندبندنت - خاص بـ «الوسط
العدد 211 - الجمعة 04 أبريل 2003م الموافق 01 صفر 1424هـ