أقبلت عليه شاحبا مظلم الجنبات مقطب الجبين عابسا، مكفهر المحيا... فقلت له ما بك؟ فقال إنني حزين. قلت له وما بواعث حزنك...؟ قال أفتقد الأمان... قلت له وهل كان لك أمان قط؟... قال نعم عندما كان هنا...
قلت له ولكن كثرٌ، قد غادروا...
قال: نعم ولكن وجعي هذه المرة عظيم فقد كانت خطواته وهو يطأ أرضي الهوينى على عادته وطبيعته، تشعرني بالأمان تدفئ جنباتي تجعلني أعلم بأن هناك من يحتضن آلامي... فقلت له ومن هو؟...
فانتفض ستيشن الشامخ العريق وكأن مسا من نار لسع الحشا وانهمر من عينيه دم... ليقول لي ألم تعلم؟؟... قلت... ما الخطب... قال لي هشام الشهابي غادرنا...
فأطرقت محدقا وستيشن يرمقني وكأنه يستلهم مواساتي، ولكنني كنت بعيدا، كنت هناك حيث الفتية الذين أرادوا أن يقيموا عدالة اجتماعية على الأرض، تصادر على المظالم وتحارب الفقر وتقلص الفوارق في العيش والشقاء والدخل والرفاه... نعم الفتية الذين انتظموا في حركة اعتبرت الأمة العربية أمة ذات رسالة للتحرير والوحدة ومن ثم إلى نظام سياسي عادل أطلقوا عليها حركة القوميين العرب التي احتضنت أجيالا من شباب ونساء ذوي بأسٍ شديد، أرادوا التحرر من المستعمر، هناك بدأ هشام الشهابي صبيا يافعا هناك بدأ رحلته في العمل السياسي وبعد الملاحم والهزائم من انتفاضة مارس/ آذار 1965م العظيمة إلى هزيمة 5 يونيو/ حزيران 1967م ونكستها المريرة بدأ الحراك الفكري يرحل يسارا وإذا بالفتية يشكلون جبهة تحرير الخليج فتماثل محمد جابر وعلي ربيعة والشهيد القائد محمد بونفور وهشام الشهابي وقاسم حداد وكثر من المواطنين الذين كتبوا تاريخ تلك المرحلة، بدأت الرقعة والصحبة واخوة المعاناة بين هؤلاء القادة والتي استمرت إلى نهاية الحياة... في هذه المرحلة بدأ هشام يتخلق قائدا مميزا وهو الذي حمل فكرا برداءة الغربي في الوقت الذي حمل رفاقه الفكر ذاته برداءة المشرقي، هشام كان يتوق إلى العمل السياسي العلني متأثرا بحزب العمال البريطاني حيث موطن تعليمه الجامعي والحركة العمالية الهائلة والنقابات لذلك كان أحد أبرز قادة انتفاضة 1972م العمالية والتي قيدت من خلال اللجنة التأسيسية لاتحاد العمال وأصحاب المهن الحرة مخاض ولادة النقابات حراكا يمور، اجتماعات سرية، تنسيق بين القوى السياسية، تحركات جماهيرية ومسيرات، خطابات تعبئة وتوعية، هشام كان هناك فارسا يروض الحكمة ويحتويها، مطاردات وملاحقات بوليسية، اختباء وبيات في البيوت المهجورة، واجتماعات سرية في المرافق العامة هشام كان هناك، والجبهة الشعبية قائمة تقود، محمد بونفور وهشام الشهابي ومراد عبدالوهاب وقاسم حداد وآخرين فرسان الحراك العام قيادات علنية وقيادات سرية يمسكون بالمفاصل.
وهذه المرحلة الشائكة المعقدة المزدحمة يداخلها العمل السياسي المباشر استقلال البحرين، استنفاء الأمم المتحدة، الدستور الوليد، الجمعية التأسيسية والتي سميت بحرينيا المجلس التأسيسي الذي كان سيضع مسودة الدستور، هشام كان هناك بدأ التشاور، وخاض هشام السجال فتحلق حوله من كان يعتزم الدخول والمشاركة في انتخابات المجلس التأسيسي ومن هنا برز تعبير الكتلة الشهابية كان الأقدر علميا، الأقدر كمحاور، الأقدر كمعبر وممثل، والجبهة الشعبية قائمة تقود، برزت مسألة التعيين الجزئي لأعضاء المجلس الوطني واتجهت القوتان الأساسيتان إلى مقاطعة الانتخابات وأجمع الجميع على المقاطعة إلا هشام كان هناك حيث قال يجب أن لا نقاطع لأنها لحظة تاريخية سوف تحمل امتداداتها وتأثيراتها سوف تستمر ولكن كان تيار المقاطعة عاتيا وما أشبه اليوم بالأمس وأصر وأصبحت الجبهة الشعبية برأيين وفي ليلة شتوية اجتمع عدد من قادة العمل السياسي يناقشون كيف يثني هشام عن موقفه على اعتبار أن الموقف الصحيح بالنسبة إليهم كان محسوما بأنه موقف المقاطعة وأنبرى سعد وهو محمد بونفور فقال أنا ذاهب إلى هشام، وخرج ملثما وقال سوف أعود وإن لم أعد فسوف يكون هناك قرار غدا، والتقى الرفيقان...
يال برودة الطقس يال رهبة الموقف يال قيمة اللقاء، ماذا لو لم يستجب هشام لرأي القائد هل تصل الكتلة الشهابية للجمعية التأسيسية هل يتحول دستور 1973م إلى دستور متقدم هل كان ليجعل هناك أحكاما أخرى للحل وإعادة التشكيل، هل تشكل المشاركة كابحا للضربة الأمنية للجبهة الشعبية في فبراير/ شباط 1973م...
قاطع الجميع انتخابات المجلس التأسيسي بعد أن استجاب هشام...
في فبراير 1973 بدأت المحرقة باعتقال مراد عبدالوهاب أحد أبرز قادة الجبهة الشعبية وتوالت الاعتقالات في صفوف الأحبة ممن يمثلون تاريخنا المديد المجيد، واعتقل هشام... واختفى محمد بونفور بعد عملية مقاومة عنيفة للقوة التي أرادت اعتقاله.
وكانت جدة جزيرة الأحلام مسرحا آخر على مدى ثمانية أشهر... فقضى الأمر فيما يتعلق بوضع مسودة دستور 1973م والتصديق عليه وأصداره.
وساد الموت السياسي عقد الثمانينيات ومع غزو النظام العراقي للكويت بدأ الحراك من جديد ووضعت القوى والشخصيات الديمقراطية برنامجا سياسيا مفاده عريضة تطالب بإعادة العمل بدستور 1973م، واتصلت بالقادة الدينيين من الطائفتين الكريمتين وشكلت لجنة العريضة المطالبة بالدستور وكان هشام في قلب الحدث إلى أن أنجزت دورها التاريخي مع الانفراج السياسي وبداية حقبة المشروع الإصلاحي الراهن.
رفعت عيني بعد أن أخذني هشام إلى عالم الفعل والفكر والسياسة لأرى ستيشن يحدق فِيَّ وهو في حالة ترقذُب قائلا...
أين كنت وإلى أين ذهبت خلال هذا الصمت الطويل... قلت له... كنت مع هشام ورفاقه... قال... أين؟ قلت له... هناك حيث صنعوا التاريخ... قال... متى آخر مرة تكلمت معه؟ قلت له قبل خمسة أشهر اتصل بي هشام هاتفيا وقال لي... ما مفاده يجب أن لا تتقطع بنا الروابط الاجتماعية والالتقاء والتزاور على أي خلفية سياسية... نعم أنه هشام فقلت له تأكد يا أبو عمر... بأننا لا نحمل إلا المودة للإخوة... وإن كان لنا شأن وعبء سياسي آخر نحمله وتحدده طبيعة المرحلة...
عرفت هشام... منذ سنوات الصبا الباكرة وكنا جيلا آخر نتمثل الفتونة وأبطالنا من نموذج الرياضيين وذوي القوة الجسدية وكان هو أحد أعضاء نادي الخليج الذي انشق عن نادي الهلال وكلاهما يمثلان بشكل أساسي شباب ستيشن والأحياء المحيطة به كان هشام رياضيا وكنا كأطفال نؤيده وذلك فقط لكونه قريبا من الناحية العائلية... لأن هناك شبابا آخرين كثر وذوو مميزات جسمانية خاصة من أبناء ستيشن، ولم نكن لندرك أننا سنلتقي يوما مع هذا الشاب اليافع في عضوية قوة سياسية سرية وفي فكر إنساني يستهدف إشاعة العدالة الاجتماعية، نعم إننا كنا في حي ينجب القادة والوطنيين بشكل تلقائي، يوسف عبدالملك الخطيب الذي أعلن تحرك أول مسيرة من أمام جامع الشيخ حمد مارس/ آذار 1956م، أحمد عبدالملك (جكي) الفتى الباسل أحد أعضاء أول مجموعة أخرجت الطلاب من المدارس إبان إرهاصات انتفاضة 1965م، عبدالله مطيويع أحد فتية انتفاضة 1965 وأحد قادة انتفاضة العمال 1972م وعضو الجبهة الشعبية أحد رجال هذه البلاد الذين عانوا عذابها وسجنها المديد المرير هم رموز وطنية أنجبهم ستيشن كما أنجب هشام...
قال ستيشن... وهو يعتصر كان أبنا بارّا... قلت نعم وأيدت ذلك بأنه لم يفارقك ويذهب إلى مناطق السكن الحديثة وهو المهندس والشخص المقتدر...
فقال لي أتسمع ما أسمع...
قلت نعم... قال كأنه هدير...
قلت له بل إنه سنابك خيل...
وإذا بنا نراقب غبارا يغالبه الأزرق فقال كأنه جيش... يقترب... قلت بل إنه جيش...
وكنا نرقب الأفق واقتربت الخيل وإذا بهذا الهدير ينجلي عن كوكبة من أربعة فرسان بيض الوجوه، جلودهم تحاكي الحرير شعر رؤوسهم كالليل...
لم أعرفهم... توقفوا أمامنا... يصطحبون حصانا معهم وإذا بنا أمام أربعة من القادة عَرّفهم الزمان وعَرَف الزمان بهم نفسه...
فتقدم أحدهم وإذا به محمد كمال الشهابي أحد قادة انتفاضة 1954م ومن عانى ويلاتها نفيا، وأحد أبرز من قاوم الاستعمار وأصر على إجلائه وخال هشام بادرنا قائلا جئت أصطحب ابني هشام... فقدر الرحمن وقضاؤه أنبأنا بأنه غادركم إلينا ونحن في لهفة للقائة.
فقال ستيشن... إلى أين؟
فرد ثاني الفرسان وإذا به عبدالله علي جاسم فخرو قائلا:
جئنا نصطحب ابننا البار إلى غفران وجنان بإذن الواحد الأحد الذي رفع السماوات بغير عمد. ساد الوجوم وإذا بنا نراقب شخصا يقترب ماشيا... فقلت لستيشن من هذا الذي يقترب؟ قال هشام. قلت وكيف عرفت فهو لا يكاد يرى حتى الآن...؟
قال: إن أرضي تعرفه فإنني أحس وطأة قدمه فهذه خطاه ليس لسواه...
فكان هشام... وعندما صار بين الجميع... ابتسم ابتسامة ذات معنى عميق وكأنها الفرحة كلها لحظة تبينه شخصيات الفرسان...
استدار ووجه حديثه إلى ستيشن قائلا:
أودعك أيها الحبيب يا من احتضن الجميع، الأجداد والآباء والأبناء... أوصيك بهم خيرا... قال: قل للأجيال القادمة بأن يمسكوا بنواصي العلم وأن يغالبوا الفقر وأن يحبوا للآخرين ما يحبون لأنفسهم... قل للأبناء بأن الأمم تحيا بالعلم، احكِ لهم كيف حمل أسلافهم قيم العزة وصون الكرامة فلم يقبلوا الفتات ولم يتسولوا... قل لهم أجدادنا وآباؤنا أعزاء ونحن أعزاء فليكونوا أعزاء.
استدار هشام وإذا بثالث الفرسان يترجل وإذا به محمد بونفور عانق هشام سعد رفيق الكفاح وقال له أتدري يا صاحبي بأنني أسميت أبني الأصغر على اسمك سعد، فرد القائد الشهيد أقسم بالله يابوعمر بأننا حملنا بداخلنا أخلاصا ووفاء طال كل شيء، لقد ودعنا الجميع وأبقينا بداخلهم ذكرى العمل من أجل وطن حر متقدم وقلنا لهم بأن شعبنا من حقه أن يحيا.
امتطى الفارسان جواديهما، ابتسم رابع الفرسان، ابتسامة ملؤها الرحمة وحنان الوالد الوقور... تحرك جواده بطريقة فيها من العنفوان الكثير... وإذا به إبراهيم محمد فخرو عضو الهيئة التنفيذية العليا لهيئة الاتحاد الوطني القائد الذي أقر الجميع بصلابته، وجه كلامه إلينا أنا وستيشن وكانت بلهجة آمرة مفعمة بدروس تجربة طويلة ومريرة... قائلا: اكتبوا تاريخا فما ماتت أمة يعمدها الكتبة... وحي ومدينة ووطن سدنته من حملة القلم.
فهززت رأسي للوالد طائعا دون أن أستطيع الكلام فهيبته كانت طاغية، تقدم هشام وما أكثر ما تقدم، تاريخ يؤسس لتاريخ، كفاح ينجب كفاحا، وجيل يخلف الأجيال... فقال قولوا لهم بأن هشام يبلغكم السلام قولوا لأبناء شعبي بأنني أحبهم...
لوّح هشام بيده معلنا الوداع واستدار الفرسان الذين أقبلوا أربعة ورحلوا يصطحبون... فارس الحكمة... يصطحبون هشام... لوّحتُ مودعا... ولوّح ستيشن وهو يذرف دموعا بحرقة تكاد تحرث الأرض وتشق الأكباد... قائلا: أنتم مقدمة الركب... أنجبتكم أرضي وأزقتي... وسوف يخلفكم أبناؤكم... فلم تولد العزة لكي تموت.
وداعا أيها الحبيب سأفتقد خطاك التي كانت دائما تشعرني بالأمان...
هكذا ودع ستيشن هشام وهكذا ودعة أبناء ستيشن...
عبدالله هاشم
العدد 2238 - الثلثاء 21 أكتوبر 2008م الموافق 20 شوال 1429هـ