«والنخلَ باسقاتٍ لها طلعٌ نضيدٌ رزقا للعبادِ وَأَحْيَيْنا بهِ بلدة ميتا كذلكَ الخروجُ» (ق: 10، 11).
عرفت البحرين منذ القدم بأنها واحة من النخيل، ولكثرة النخيل فيها أطلق عليها اسم بلد (المليون نخلة). وارتبطت النخلة ارتباطا وثيقا بحياة الانسان البحريني، وكانت مصدرا للكثير من المستلزمات التي يحتاج إليها في قضاء اموره اليومية، فبجانب كونها مصدرا غنيا بالثمار الطيبة التي تستهوي هذا الانسان والمتمثلة في الرطب والجدب كذلك يمكن تحويل طلعها إلى ماء اللقاح المشهور في البحرين، إذ يكاد لا يخلو بيت بحريني من هذه الاصناف. وإلى جانب كل هذا فهي مثلت مصدرا للكثير مما أمكن الاستفادة منه في تسيير شئون الحياة اليومية (أيام اول)، فهي (وخصوصا جذوعها) جزء رئيسي من الخام الذي تبنى به المنازل والعرشان سابقا، وعماد رئيسي في تدعيم المنازل الحجرية، وسعفها يستخدم في كثير من الامور من اثاث منزلي وغيره، وكربها وليفها لا يخفى استخدامهما على أحد من اهل البحرين، وكذلك كانت النخلة مضربا للكثير من الامثال والاهازيج الشعبية، ولذلك كانت للنخلة منزلة خاصة في نفس الانسان البحريني، وأصبحت جزءا من ذاكرته التي لا يمكن أن تمحى باختفاء النخلة... نعم قد تختفي النخلة يوما من بلد المليون نخلة اذا سارت الامور على ما هي عليه.
تشير الارقام الى ان عدد النخيل فعلا كان مليون نخلة وهو ليس رقما خياليا، فقد بلغ عدد النخيل في منتصف السبعينات من القرن الماضي 895 ألف نخلة، منها 625 ألف نخلة منتجة، اي ما نسبته 70 في المئة من مجموع النخيل، وفي بداية الثمانينات أدت بعض العوامل ـ التي سنشير إليها لاحقا ـ إلى نقص شديد في عدد النخيل بلغ 11 في المئة في ست سنوات، إذ وصل عدد النخيل في تلك الفترة الى 790 ألف نخلة. من هذه الارقام نلحظ انه من الممكن قبل السبعينات وصول عدد النخيل في البحرين الى مليون او اكثر كون النخلة الضيفة العزيزة في كل بيت بحريني ولها اهمية خاصة في البيئة البحرينية. لكن مع مرور الوقت ومع استمرار مسلسل تناقص عدد النخيل في البحرين وصل العدد حاليا الى 190 ألف نخلة فقط.
في قرية مثل ابوصيبع كانت تحيط بها المزارع من جميع جوانبها، إذ يبلغ عدد المزارع فيها 21 مزرعة في سبعينات القرن الماضي، وصل عدد النخيل آنذاك إلى اكثر من 2000 نخلة. أما حاليا ومع زوال مساحات واسعة من المزارع وتحولها الى نشاطات اخرى، لا يكاد يبلغ عدد النخيل فيها بضع مئات.
يعزو الكثير من المهتمين النقص الشديد في عدد النخيل الى اسباب عدة يمكن ان تنذر بخطر اختفاء النخيل من البلاد اذا سارت الأمور وفق ما عليه الآن، ويمكن ان نجمل هذه الاسباب في:
ـ الاهمال: إذ مع الطفرة الاقتصادية في السبعينات ترك الكثير من المزارعين مزارعهم متوجهين الى العمل في القطاع الحكومي والخدماتي ذي الربح الاكبر وبأقل جهد ممكن، تاركين ارضا زراعية منتجة الى الايدي العاملة الاجنبية التي لا يمكن في يوم من الايام ان تهتم بالارض الزراعية كما اصحاب الارض، الامر الذي ادى الى نقص في مساحات كبيرة من الاراضي الزراعية، وكان من ضمن ما خسرته، مساحات كبيرة لزراعة النخيل واعداد كبيرة من النخيل.
ـ تجريف الاراضي الزراعية: إذ ساهم تجريف الاراضي الزراعية لتحويلها إلى استثمار آخر كالاستثمار السكني والتجاري، في اقتطاع اجزاء كبيرة من الاراضي الزراعية واعداد كبيرة جدا من النخيل، ويمكن اعتبار هذا العامل من اهم العوامل التي تساهم بقوة في تدهور الزراعة وبالتالي النقص في اعداد النخيل في البحرين.
ـ التغيّر النوعي والكمي في مياه الري: إذ ادت ندرة المياه الجوفية بالتأكيد الى نقص كبير في الاراضي المزروعة وبالتالي الى نقص عدد النخيل، كما ساهم تملح المياه الجوفية في تفاقم مشكلة نقص الاراضي الزراعية وزيادة المساحة البور.
مشروعات زراعة النخيل
هل يمكن أن تتدارك المشكلة؟
في ظل هذا التناقص الشديد في عدد النخيل في البحرين سعت الكثير من الجهات ومنها البلديات، مثل بلدية المنطقة الشمالية، إلى إقامة بعض المشروعات لزراعة النخيل، كما قامت وزارة الاشغال بزيادة تشجير الشوارع بأشجار النخيل، ولكنها كانت على مساحات محدودة جدا وأعداد قليلة كذلك. وهناك بعض المشروعات التابعة لادارة الزراعة مثل مشروع «هورة عالي» اذ يبلغ عدد اشجار النخيل فيه 4500 نخلة الى جانب اصناف اخرى من الاشجار، أما مشروع «البحير» فيبلغ عدد اشجار النخيل فيه 2066 نخلة، وأخيرا مشروع «توبلي» الذي يبلغ عدد النخيل المستزرعة فيه 2515 نخلة. ومعظم ما تنتجه هذه المشروعات يذهب الى موائد طعام الماشية كأعلاف وذلك لرداءة نوعية الانتاج من هذه المشروعات.
مثل هذه المشروعات التي تقوم على مساحات محدودة وبأعداد قليلة من اشجار النخيل لا يمكنها ان تعوّض ما تخسره الاراضي الزراعية من أعداد اكبر تحت آلات التجريف التي لم تتوقف منذ ان دار محركها. المطلوب هو ايقاف زحف آلات التجريف وإعادة تأهيل الاراضي الزراعية المنتجة بتوفير المياه الصالحة، وزيادة مشروعات زراعة الأنسجة ذات النوعية الجيدة، وضرورة تدريب الايدي العاملة البحرينية على امور الزراعة والنخيل، وإلا فإنه حتما سيأتي اليوم الذي لا ترى فيه نخلة في بلد المليون نخلة