قمر باهت ولامع عالق في سماء بلون الفحم وهو يلقي بظلاله على شواهد قبور تغطيها الثلوج. المقبرة خالية وهادئة وباردة.
وفي كنيسة قديمة وقريبة تعصف بها رياح هناك 16 شخصا يجلسون متقاربين عند نوافذ مقوسة ويحسون بأن البرد قد بدأ يخترق عظامهم، ومع ذلك يضغطون أنوفهم على الزجاج ويوجهون أنظارهم نحو المقبرة المهجورة.
وعلى الرصيف خارج كنيسة وستمينستر البرسبتارية القديمة، ينتظر أيضا عشرات من الاشخاص بكاميرات الفيديو والمناظير وقد لفوا أنفسهم بالبطانيات السميكة طلبا للدفء.
يقول مدرس اللغة الإنجليزية جون سينكلر، الذي جاء من بنسلفانيا: «لو كنت مكانه لاستولى علي الرعب، إنه يعرف أننا نراقبه - وإن كل هؤلاء الناس ينتظرونه. إني خائف منه».
إنه يأتي في التاسع عشر من شهر يناير/كانون الثاني كل عام... رجل يلف نفسه بعباءة سوداء يحتفل بعيد ميلاد اغار ألن بو بالتسلل إلى مقبرة وستمينستر ويترك ثلاث ورود حمراء على قبر بو.
وفي التاسع عشر من يناير كل عام أيضا يدعو، عميد منزل ومتحف بو جيف جيروم، 15 شخصا من المتفرجين المختارين لمشاهدة هذا الطقس السنوي من الداخل. ويمضي الضيوف الليل محتشدين داخل الكنيسة المظلمة ويحتسون القهوة والكاكاو الساخن بانتظار ان يلمحوا الزائر الغريب المستعصي على البصر.
هذا التقليد مسجل للمرة الأولى في العام 1949، أي بعد قرن على وفاة بو، ولا أحد يعرف من هو الشخص الذي أطلق عليه لقب «Poe Toaster» أي «شارب نخب بو» ولا حتى جيروم نفسه الذي شهد كل زيارة للشبح الغريب منذ العام 1976.
ويحرص جيروم على بقاء هوية الزائر مجهولا، ويتفحص عشرات الطلبات التي يتلقاها سنويا يدقق في أهداف المتقدمين بها قبل الموافقة على 15 منها فقط بعد ان يتأكد من ان هؤلاء الذين يقع عليهم الاختيار يشاركونه اهتمامه بادغار ألن بو، مؤلف الروايات البوليسية، والتزامه بابقاء هوية الزائر الغريب لقبر المؤلف مجهولا.
جيروم يطفئ الأنوار في الساعة العاشرة ليلا، ويبدأ السهر.
حوالي نصف الشهود هم من الذين سبق ان جاءوا للسهر والانتظار عدة مرات. والبعض منهم يحملون أجهزة الووكي توكي لتتبع تحركات الحشد خارج القاعة وانتظار ومراقبة الزائر الذي قد يظهر في أية لحظة قبل السادسة صباحا. ويخشى الساهرون أن يفسد عليهم أحد الانصار المندفعين في الشارع، المناسبة لرؤية الظاهر.
موظفة دائرة البريد في سالزبري بماريلند شارون بايلي التي شاركت في عشر سهرات، تمضي الليل وهي تراقب حشد الجمهور في الطريق من النافذة. وشأنها شان المشاهدين كافة تحاول شارون ضمان ألا يقدم أحد الانصار المتحمسين في الشارع على افساد التقليد والمناسبة بمحاولة الاقتراب من الزائر.
وتقول شارون، الممسكة بجهاز الووكي توكي والتي ترتدي كنزة حمراء فضفاضة، ان التقليد لايزال يجتذب عددا كبيرا من الناس على رغم مضي كل هذه السنين.
ثم هناك القادمون للمرة الأولى، ومعظمهم في حال من التوتر والحماس ازاء المغامرة المنتظرة.
المعلم جو سينكلر، القادم للمرة الأولى، يحمل غرابا مزيفا بالحجم الطبيعي ولكن بريش حقيقي (دمية صغيرة) ينوي وضعها على قبر بوليلتقط لها صورة مع الورود والكونياك.
ويقول سينكلر: «يبدو الأمر كواحدة من قصص بوالغامضة الخاصة بهذه البلدة. ونحمد الله على ان هذا واحد من الأمور الغامضة التي لم تأبه بالطيمور لحلها.
معلمة اللغة الإنجليزية من بنسلفانيا تيري هنسل قادمة للمرة الاولى ايضا، وهي تلعب في أوقات فراغها دور انابيل لي، احدى بطلات بو، في المسرحيات المحلية.
مع تسارع ساعات الليل، يكبر الحشد في الخارج حتى يصل العدد الى حوالي 470 شخصا. ويقول «قدماء» انه لم يسبق لهم أن شاهدوا حشدا بهذا الحجم.
وفي زاوية في الجهة المقابلة لطريق يقف رجل بشاربين كبيرين حاملا منظارا كبيرا وحقيبة أمتعة على ظهره، ويراقب مدخل المقبرة. مديرة برنامج الرياضة في سنترفيل في ماريلند، انيتا غراس تتعرف على الرجل وتقول إنها شاهدته في السنة الماضية عندما أمضى الليل بطوله على مدخل منزل مجهول إلا انه فوت على نفسه في النهاية رؤية الشبح الزائر.
تقول غراس عن الجمهور: «إنهم رفاق بوالروحيون، إنهم يشعرون ان صلة بالمؤلف تجلبهم الى هذا المكان، مثلنا تماما».
غراس أمضت 12 سنة في البحث عن «شارب نخب بو»، إلا انها تعترف بأنها تخشى أحيانا ان يحاول أحد الواقفين في الطريق الهجوم على الزائر ونزع عباءته وتخريب اللغز».
معلمة اللغة الانجليزية في فارفيل بفيرجينيا ماثا ووماك المعروفة على موقعها على الانترنيت باسم «Precisely Poe» تشبه لغز الزائر بلغز وحش لوك نيس في اسكوتلندا.
وتقول ووماك التي سبق ان سهرت هنا تسع مرات: «ماذا لو استطعت ان تجفف بحيرة لوك نيس؟» ستكتشف اما انك قتلت الوحش، أو انه لم يكن هناك وحش اصلا وفي الحالين قد خربت اللغز. هذا لغز جميل، ولم يبق هناك إلا عدد ضئيل من الالغاز الجميلة.
كريستوفر شراف، الكتاب الذي لم يفوت على نفسه إلا زيارة واحدة منذ ان بدأ جيروم يدعو الضيوف في العام 1983 يقول إن هناك اتفاق جنتلمان غير مكتوب بيننا على اننا سنحافظ على مجهولية الشبح ونضمن قيامه بمهمته بأمان.
وماذا سيفعل من اجل وقف شخص ما عند حده إذا حاول كشف سر الزائر؟
يقول شارف مبتسما: «إنني سأدافع عن الزائر بتعريض صدري للرصاص من أجله. إن الاسطورة يجب ان تستمر في العيش».
في الساعة الثالثة صباحا يأتي صوت عبر التوكي ووكي: أتعرف أين «شارب النخب»؟
في الخارج تبدو الاشجار التي جردت فروعها من الأوراق وكأنها هيكل عظمي مرسوم على خلفية السماء المظلمة. الطقس بارد الى درجة ان قطعة موز متروكة على سيارة وتجمدت واصبحت سوداء. بعض الناس يرتجفون من البرد، وأحدهم يبحث عن دواء ضد حموضة المعدة.
ثم، في الساعة الثالثة و24 دقيقة صباحا، يظهر رجل ضخم الجسم وقد اخفى وجهه وراء قناع قاتم، يمشي في الشارع مارا بالقرب من إحدى النوافذ، وقد حمل رزمة ما بيده.
«هذا... إنه هو»... يصرخ أحدهم ويتردد صوته في ارجاء سقف القاعة.
ويمر الرجل بالقرب من البوابة المؤدية الى المقبرة، غير بعيد عن زوجين يدخنان السجائر داخل سيارتهما الكبيرة. إنه يتقدم على مسافة أمتار قليلة منهما.
ثم يتوقف الرجل، ويستدير وفي غضون لحظة يعبر البوابة ويتابع سيره منحنيا ويختفي في الظلال.
ويتراكض المراقبون على الادراج نزولا الى الطبقة الاولى، ويتجمعون امام النافذة الخلفية التي تطل على ضريح بو.
وبعد دقائق قليلة تبدو طويلة جدا يخرج الشبح الزائر من الظل ويتوجه الى الضريح الذي يحجبه ناووس وبعض الاشجار عن الفضوليين المنتظرين في الطريق.
ويضع الزائر يده بلطف على شاهد القبر وينحني ويضع شيئا على القبر، ثم يعود للاختفاء في الظل.
وبعد دقيقة أو دقيقتين يظهر الرجل مجددا ويكاد ان تزل قدمه على رقعة جليد قبل ان يستعيد توازنه ويختفي في ظلمة الليل.
«لقد فعلها، لقد فعلها» ويرتفع الهتاف من المراقبين الذين يهرولون الى الخارج. ليتفحصوا زجاجة الكونياك والورود الثلاث الموضوعة على القبر، على رغم ان الهواء البارد كان يصفع وجوههم.
ويضحك المراقبون عندما يقول أحدهم: «الزهور تبدو ميتة أكثر من بو». ويرد جيروم وهو يلتقط الورود: «لا إنها كاملة».
وقبل انبلاج الفجر يجمع الرواد المداومون اغراضهم واجهزة الووكي توكي ويغادرون ويقفل سينكلر مع دميته عائدا الى بنسلفانيا.
وفي زاوية الطريق لايزال الرجل الضخم مصوبا منظاره على بوابات المقبرة. إنه مثل الآخرين في الطريق، لم يشاهد شيئا. لقد ذهب الزائر مرة أخرى. إنه، بعد 54 عاما لايزال لغزا.
(خدمة أ.ب
العدد 246 - الجمعة 09 مايو 2003م الموافق 07 ربيع الاول 1424هـ