تقدم للتكنولوجيا العصرية، كما في التكنولوجيات السابقة، سلبيات وايجابيات كثيرة. التطور او النضج البشري اضافة الى الترتيبات القانونية والاجراءات السياسية والاجتماعية قد تؤدي الى تخفيف حدة امراض التكنولوجيا وترجيح ايجابياتها على سلبياتها.
تمثل تكنولوجيات المعلومات والاتصالات نقلة نوعية شاملة في تاريخ الانسان في الربع الأخير من القرن العشرين، وتقدم هذه النقلة النوعية في القرن الواحد والعشرين في كل الاتجاهات وتتداخل بعمق اكثر في حياة الانسان المعاصر ومجتمعه.
وتبدو وتيرة التغير التكنولوجي وانعكاساتها الاجتماعية ظاهرة الى درجة الشعور بأن العالم قد يتغير بين عشية وضحاها. وقد لا يحدث هذا تماما، لكن فرض على الانسان المعاصر التهيؤ والتحسب كي يواكب التطورات الكبيرة في حياته وعمله وملبسه ومعيشته وغير ذلك.
وتم وضع وتطوير مفهوم الابعاد الثلاث (3 Dimensions) تكنولوجيا وعلميا في شكله الذي نستوعبه اليوم ابان عصر الثورة الصناعية، ثم جاء اينشتاين مضيفا عامل الزمن بوصفه بعدا رابعا في نظريته النسبية. ونحن اليوم في خضم ثورة الذهن التي تشكل المعلومات البعد الخامس فيها.
لعبت المعلومات دورا بالغ الأهمية في تاريخ الانسان ومثلت بضاعة مهمة للتنافس طوال التاريخ. كما مثلت في الوقت عينه حلقة وصل بين مراحل تطور الانسان ومسيرته الطويلة على الارض. أما الاتصالات فكان تاريخها من ابرز الامثلة على الخلق والابداع والتطور. واعتبرت خطوط السكك الحديد بداية اولية لأنظمة البنى التحتية، تبعتها في عهد فكتوريا أهمية تطوير هذه البنى الى خطوط التلغراف (او ما يسمى بانترنت العهد الفكتوري) والهاتف. وتطورت تقنيات الاتصالات بعد الحرب العالمية الاولى بشكل اكثر وازداد دورها في قطاع الخدمات ولعبت الحكومات دورا في ظهور شكل الشبكات المعقدة والعصرية الموجودة معنا اليوم. كما مثلت الاتصالات الالكترونية تراث وتقاليد عميقة ومعرفة عالمية كبيرة (لا توجد أسرار في هذه التقنية كما هو حاصل في الصناعات الأخرى). وأثبتت التجارب التاريخية ان المهندسين والتكنولوجيين في الاتصالات يبتكرون أكثر عبر تبادل الأفكار والخبرات مع الآخرين. ولذلك ساهمت هذه التقنية في زيادة المعرفة، ومع المعرفة تأتي المقدرة ولا يمكن الفصل بين الاثنين. كما اصبحت المعرفة عبر الاتصالات القاعدة الأساسية لأداء الاعمال والواجبات لأي مجتمع معقد، والقاسم المشترك بين ايصال المعلومات والافكار الى الاعضاء الآخرين في المجتمع الواحد والمجتمعات الأخرى. ولم تأخذ هذه العملية بحجمها الانقلابي الشامل والعالمي البعد الذي نشهده اليوم إلا عند تطوير الكمبيوتر الشخصي (PC) إذ انه يعتبر المحرك الرئيسي لثورة المعرفة، ونتاج تزاوج الكمبيوتر مع الاتصالات في نمو التلفزيونات الفضائية والانترنت وطرق الموصلات العملاقة وغير ذلك، وجعلت مؤتمرات الفيديو الآنية كسفينة الفضاء العابرة للقارات. ولم تكن الدول المتطورة، لاسيما أمريكا، قوى عظمى لامتلاكها الاسلحة النووية والصواريخ العابرة للقارات بل لأنها تمتلك منظومة اتصالات فضائية تستطيع معها منافسة القوى الاخرى والتأثير في مساراتها.
وأنتجت كثرة المعلومات وتطور وسائل توافرها، عصر المعرفة المكثفة. وبما ان المعرفة نتاج الخبرة فإن مفهوم ادارة المعرفة Knowledge Management تعني السماح للعموم بمشاركة المعلومات والمعارف والخبرات. ولا تعني ادارة المعرفة التعامل مع الاحجام الكبيرة من المعارف وادارتها فقط، وانما توجيه فائدتها لغرض الناس عموما. وهذا يستدعي تغيير الطرق التقليدية للتعليم والمشاركة كما يرى بعض الخبراء. وربما الأهم افراز عصر المعرفة المكثفة نتيجة تشابك العلوم والتخصصات، وفي نهاية المطاف عالم تعقد الحالات الاجتماعية او ما سمي حديثا بـ «انبثاق الظاهرة» (Emerging Phenomena).
وتغيرت مفاهيم الزمان والمكان في ظل التحولات الشاملة وانهيار مفاهيم الزمن التقليدية، فضلا عن احداث التضادات الايجابية المفيدة، كما في التقنية الجديدة ذاتها المتكونة من الأصفار والآحاد، لجمع المحلية والعالمية والمركزية واللامركزية وغيرها في آن واحد. هذه هي الطاقة الخفية التي تنتج او تخلق أشياء جبارة اخرى. ولكنها ايضا تجلب سلبيات كبيرة إذ لا توجد الكثير من الترتيبات او السيطرة على حركة المعلومات. واصبحت المعلومات بضاعة بالغة يجب اقتناؤها. فالمعرفة تنتج حتى تباع، وتستهلك حتى يتم تثبيت اسعار السلع في الانتاج الجديد. والهدف النهائي هو تبادل المصلحة بعد ان كانت المعرفة والمعلومات غايات بحد ذاتها. تمثل المعلومات والمعرفة كل شيء في الزمان والمكان. ويتوقع خبراء التكنولوجيا وجود كثرة مفرطة للمعلومات Information Overload بسبب التقدم المذهل في الوسائل المتوافرة للانترنت والاقمار الصناعية وغيرهما. وقد سببت هذه الكثرة المفرطة الاجهاد الشديد لعدم معرفة المعلومات الصحيحة والمطلوبة التي قد تؤدي الى الارتباك والشك المفرط في هذه المعرفة Information Paranoia وقد تحدث الكوارث نتيجة العلاقة المباشرة بين المعلومات والميديا والاعلام والسياسة.
ان كثرة المعلومات ووفرة وسائل الحصول عليها عقدت الحياة الانسانية، وخلقت نوعا من البيروقراطية الحادة وحصرت مهمة الجنس البشري في هدف واحد هو اقتناء المعلومات وحسب. إذ تتطلب مراكز معرفة لتصفية المعلومات ذات الفائدة والعلاقة. وهناك مخاوف من ان تدمر التكنولوجيا العصرية المدنية الانسانية وتنزع المواطن من انسانيته وتحوله الى مواطن معلومات وانترنت، وبالتالي قد تؤدي الى فقدان القيمة العملية للتجمعات البشرية. وربما هناك ما هو اخطر فعلى رغم زيادة التقنية الحديثة لكفاءة الانسان وانتاجه فقد استبدل الانسان بالكمبيوتر في كثير من النشاطات. الأمر الذي جعل العقود الدائمة للموظفين او المستخدمين شيئا يعود الى الماضي، وبدأ ينتج الكثير من الفقراء والقلة من الاغنياء
العدد 249 - الإثنين 12 مايو 2003م الموافق 10 ربيع الاول 1424هـ