يقدم ابن خلدون القصيدة السابقة لهذه القصيدة بقوله: "ومن قول خالد (بن حمزة بن عمر شيخ الكعوب) يعاتب إخوانه في موالاة شيخ الموحدين أبي محمد بن تافراكين المستبد بحجابة السلطان بتونس على سلطانها مكفوله أبي إسحاق ابن السلطان أبي يحيى وذلك فيما قرب من عصرنا" ونورد منها هذه الأبيات:
يقول بلا جهلٍ فتى الجود خالد
مقالة قوالٍ وقال صواب
مقالة حبرٍ ذات ذهنٍ ولم يكن
هريجٍ ولا فيما يقول ذهاب
تفوهت بادي شرحها عن مآرب
جرت من رجالٍ في القبيل قراب
بني كعب أدنى الأقربين لدمنا
بني عم منهم شايب وشباب
لاحظ في البيت الثاني استخدام "ذات ذهن" بدلا من "ذي ذهن"، وتنتشر ظاهرة استخدام الأسماء الخمسة بطريقة خاطئة في الشعر الهلالي وكذلك في الشعر النبطي القديم. كما نلاحظ اختلاف قاموس الشعر الهلالي عن قاموس الشعر النبطي في استخدام كلمات مثل "هريج" في الشطر الثاني من البيت الثاني بمعنى ثرثار وكلمة "قبيل" في الشطر الثاني من البيت الثالث بمعنى قبيلة.
وهذه أبيات من قصيدة سلطان بن مظفر بن يحيى من الذواودة، أحد بطون رياح وأهل الرئاسة فيهم... قالها في معتقله بالمهدية في سجن الأمير أبي زكريا بن أبي حفص أول ملوك إفريقيا من الموحدين، يحن فيها إلى قومه ويتوجد على رؤيتهم. (والقصيدة تذكرنا بقصيدة شيخ قبيلة العجمان راكان بن حثلين، التي قالها وهو في سجن الأتراك ومطلعها: أنا اخيل يا حمزة سنا نوض بارق):
وكم من رادحٍ أسهرتني ولم أرى
من الخلق أبهى من نظام ابتسامها
وكم غيرها من كاعبٍ مرجحنه
مطرزة الأجفان باهي وشامها
أرى في الفلا بالعين أظعان عزوتي
ورمحي على كتفي وسيري أمامها
بجرعا عتاق النوق من فوق شامس
أحب بلاد الله عندي حشامها
إلى منزلٍ بالجعفريات للوى
مقيم بها، ما ألذ عندي مقامها
ونلفي سراةٍ من هلال بن عامر
يزيل الصدا الغل عني سلامها
بهم تضرب الأمثال شرقٍ ومغرب
إذا قاتلوا قومٍ سريع انهزامها
عليهم ومن هو في حماهم تحيه
مدى الدهر ما غنى بغين حمامها
فدع ذا ولا تأسف على ماضي مضى
فذي الدنيا ما دامت لحيٍ دوامها
وإضافة إلى هذه القصائد التي ذكرها ابن خلدون في مقدمته التي لا نشك في نسبتها، ولا في صحة الحوادث التي تتحدث عنها... يذكر كذلك في بداية الجزء السادس من تاريخه تفاصيل كثيرة عن بني هلال، ويورد لهم مزيدا من الأشعار: منها أبيات في مدح دريد - أحد بطون الأثبج من بني هلال - الذين يقول عنهم ابن خلدون: "وأما دريد فكانوا أعز الأثبج كلهم عند دخولهم إلى افريقية لحسن بن سرحان بنو وبرة إحدى بطونهم" وتقول الأبيات:
تحن إلى أوطان صبرة ناقتي
لكن معا جملة دريد حوارها
دُّريد سراة البدو للجود منقع
كما كل أرض منقع الماء خيارها
وهم عرب الأعراب حتى تعرفت
بطرق المعالي ماينوفي قصارها
وتركوا طريق البارمين ثنية
وقد كان مايقوي المطايا حجارها
2 - أشعار السيرة الهلالية:
إلا أن الأسطورة تتداخل مع التاريخ فيما ذكره ابن خلدون عن بني هلال من أخبار وأشعار في المقدمة وفي بداية الجزء السادس من تاريخه؛ لذلك نجده - إضافة إلى النماذج الشعرية التي سبقت الإشارة إليها - يورد في مقدمته وتاريخه نماذج أسطورية تندرج في أشعار السيرة الهلالية، وتدور في فلكها. حينما نتفحص القصائد التي وردت في المقدمة مثلا نجد ابن خلدون يقدم الأولى بقوله: "فمن أشعارهم على لسان الشريف بن هاشم يبكي الجازية بنت سرحان..." والثانية بقوله: "ومن قولهم في رثاء أمير زناتة أبي سعدي..." والثالثة بقوله: "ومن قولهم على لسان الشريف بن هاشم..." والرابعة بقوله: "ومن قولهم في ذكر رحلتهم إلى الغرب..." وفي استخدام ابن خلدون عبارة "ومن قولهم على لسان" في تقديمه بعض القصائد المنسوبة إلى شخصيات هلالية قديمة تنصل من نسبة هذه القصائد، وإيحاء قوى بأنها قصائد منحولة قالها المتأخرون منهم، وغالبيتها مما يدخل ضمن دائرة السيرة الهلالية، أي أن الشريف لم يقل القصيدتين المنسوبتين إليه وإنما قالها الرواة على لسانه وأن قائليها وقائلي القصيدتين الأخريين غير معروفين ولا يمكن تحديد الحقبة التي قيلت فيها هذه القصائد. من هذه القصائد مرثية الزناتي خليفة والقصيدتان المنسوبتان إلى الشريف شكر بن هاشم. وتصادفنا في هذه الأشعار الكثير من أسماء الشخصيات والحوادث الأسطورية التي لاتزال تشكل جزءا من السيرة الهلالية التي يتداولها الرواة حتى وقت قريب. خذ مثلا هذه الأبيات من قصيدة الشريف:
ونادى المنادي بالرحيل وثوروا
وعرج عاريها على مستعيرها
وسدا لها الأريا ذياب بن غانم
على يدين ماضي بن مقرب أميرها
وقال لهم حسن بن سرحان: غربوا
سوقوا النجوع إن كان أنا هو غفيرها
وخذ أيضا هذين البيتين في رثاء الزناتي:
أيالهف كبدي على الزناتي خليفه
قد كان لا عقاب الجياد سليل
قتيل فتى الهيجاء ذياب بن غانم
جراحة كأفواه المزاد تسيل
ومما يقوي الافتراض أن السيرة الهلالية كانت منذ ذلك الوقت قد أخذت في التبلور قول ابن خلدون: "ولهؤلاء الهلاليين في الحكاية عن دخولهم إلى افريقية طرق في الخبر غريبة: يزعمون أن الشريف بن هاشم كان صاحب الحجاز ويسمونه شكر بن أبي الفتوح، وأنه أصهر إلى الحسن بن سرحان في أخته الجازية فأنكحه إياها، وولدت منه ولدا اسمه محمد. وأنه حدث بينهم وبين الشريف مغاضبة وفتنة، وأجمعوا الرحلة عن نجد إلى افريقية. وتحيلوا عليه في استرجاع هذه الجازية فطلبته في زيارة أبويها فأزارها إياهم، وخرج بها إلى حللهم فارتحلوا به وبها. وكتموا رحلتها عنه وموهوا عليه بأنهم يباكرون به للصيد والقنص ويروحون به إلى بيوتهم بعد بنائها فلم يشعر بالرحلة إلى أن فارق موضع ملكه، وصار إلى حيث لا يملك أمرها عليهم ففارقوه، فرجع إلى مكانه من مكة وبين جوانحه من حبها داء دخيل، وأنها من بعد ذلك كلفت به مثل كلفه إلى أن ماتت من حبه. ويتناقلون من أخبارها في ذلك ما يعفي عن خبر قيس وكُثير ويروون كثيرا من أشعارها محكمة المباني متفقة الأطراف، وفيها المطبوع والمنتحل والمصنوع، لم يفقد فيها من البلاغة شيء وإنما أخلوا فيها بالإعراب فقط، ولا مدخل له في البلاغة كما قررناه لك في الكتاب الأول من كتابنا هذا. إلا أن الخاصة من أهل العلم بالمدن يزهدون في روايتها ويستنكفون عنها لما فيها من خلل الإعراب، ويحسبون أن الإعراب هو أصل البلاغة وليس كذلك. وفي هذه الأشعار كثير أدخلته الصنعة وفقدت فيه صحة الرواية فلذلك لا يوثق به، ولو صحت رواية لكانت فيه شواهد بآياتهم ووقائعهم مع زناتة وحروبهم، وضبط لأسماء رجالاتهم وكثير من أحوالهم. لكنا لا نثق بروايتها. وربما يشعر البصير بالبلاغة بالمصنوع منها ويتهمه، وهذا قصارى الأمر فيه. وهم متفقون على الخبر عن حال هذه الجازية والشريف خلفا عن سلف، وجيلا عن جيل، ويكاد القادح فيها والمستريب في أمرها أن يرمى عندهم بالجنون والخلل المفرط لتواترها بينهم".
ولا تخلو القصائد الهلالية التي أوردها ابن خلدون من بعض الظواهر اللهجية التي كانت قد بدأت تميز لغتها من لغة الشعر النبطي منذ ذلك الوقت. ففي البيتين الآتيين من قصيدة قيلت على لسان الشريف بن هاشم، نلاحظ في البيت الأول ورود كلمة "نحنا" بدلا من "حنا" أو ما يقابلها بلهجة أهل الجزيرة، وفي الكلمة الأخيرة من البيت تلحق الشين في نهاية الفعل المسبوق بأداة النفي "ما". وفي البيت الثاني نجد الفعل "نصدفوا" بدلا من "نصدف"، إضافة إلى ظواهر لهجية أخرى مما يتميز به كلام أهل المغرب العربي ويقوم دليلا على أن هذه الأبيات منحولة على الشريف الذي يفترض أنه من الحجاز ولهجته حجازية.
تبدي ماضي الجبار وقال لي
اشكر ما نحنا عليك رضاش
نجن غدينا نصدفوا ما قضى لنا
كما صادفت طعم الزباد طشاش
العدد 1585 - الأحد 07 يناير 2007م الموافق 17 ذي الحجة 1427هـ