هناك طبقة من «قراء الحديث» لايزال لها وجودها في المآتم بالبحرين والمنطقة الشرقية. وقد مرّت هذه الطبقة التي لا يعرف منشؤها بتحوّلات انتهت إلى أن تصبح نادرة وشحيحة، وتقلب بها الزمان حتى باتت غير مطلوبة في المآتم لعدة اعتبارات خارجية.
كتب الحديث
«الحديث» مفردة حسينية تكتنز دلالة ثقافية، وقد ظلّ إلى ما قبل 20 - 30 سنة تقريبا مرجعا لجمهور المآتم الحسينية، إذ يجد المستمع فيه - بحسب الحاج أحمد نصيف - ما لا يسمعه من الخطيب، بل كان الوضع لدى «الأولين» - بحسب أحمد الجمري - أن قارئ الحديث هو الذي يتكفّل بقراءة تفاصيل «المقتل» كلّه، بينما يكون دور الخطيب في ذكر المصرع والأبيات الشعرية فقط.
«الحديث» هنا هو مجموعةٌ روايات مدونة عن الحسين (ع) أو آل البيت (ع) تقرأ قبل صعود الخطيب الحسيني المنبر، وأبرزها كتاب «المنتخب» للطريحي (القرن 10هـ) المعروف بـ «الفخري». هذا الكتاب مثار جدل حول وثاقة بعض ما فيه، إلى درجة أن الشيخ محمد مهدي شمس الدين انتقد بعض «مراسيله» و«عباراته»، وبعض أهل فنّ قراءة «الفخري» يتجاوزون «المغشوش» فيه بحسب نصيف، رافضين قراءة ما لا يصحّ سندا. وهناك كتاب يصفه الجمري بأنه «أضبط»، ألا وهو كتاب «الفوادح الحسينية» للفقيه الشيخ حسين البحراني (ق 12هـ)، كما أن هناك كتب «المقاتل»، وأشهرها مقتل أبومخنف الأزديّ (ق 2 هـ) «الذي يأخذ من هنا وهناك» (نصيف)، وعليه بعض النقود من أهل التحقيق في ثبوت النسبة وصحّة بعض مرويّاته، ولذلك ظهرت كتب أحدث حاولت تلافي هذه المشكلة كمقتل السيد عبدالرزاق المقرّم. هذه الكتب التي لاتزال متداولة ومصفوفة على أرفف المآتم الحسينية تضمّ بين دفتيها الكثير، نثرا يسوق رواياتٍ خالية من الأسانيد عن مكانة الحسين وثواب الجزع عليه وفجائع كربلاء بلا نظر في مدى اعتبار بعضها، وهي مربوطة ببعضها بشكل مسجّع، مضافا إلى شعر فصيح يُثبت غرر قصائد الرثاء في شهداء كربلاء.
«الفخري» بين الأبجدية والأداء
هذا التباين بين الفنّين فرض لونا مختلفا في الأداء، فالنثر (الحديث) يستلزم قراءته بطريقة مدّ أواخر الجمل، وهي طريقة لا تستعصي على التقليد، ولذلك لم يجد الشاب عبدالمحسن يوسف عناء في إتقانها بعد ممارستين. فيما يشكّل الشعر أزمة لا تحلّ إلاّ بالتمرّن، ولذلك يخفق البعض فيقرأون الشعر كالحديث، فيما يتفنّن آخرون في قراءة الشعر فيبدعون مجلسهم الخاص، ويفرضون حضورهم حتى يغدو الكلام في الأثناء «منكرا»، ولقد أصبح لهؤلاء مريدون وبكّاؤون و«مستمعة». هذه التوليفة بين الأبجدية والأداء فرضت نفسها كرافد ثقافي، تم الاستغناء عنه لاحقا مع استحداث المدارس. وفيما اضطر كثيرون رجالا ونساء - بحسب شهادات الكثيرين - إلى تعلّم «الفخري» بعد القرآن ووفاة النبي (ص) كمنهج دراسي، وجد آخرون - الجمري مثلا - أنفسهم يشذون عن القاعدة، إذ تلقوا «الفخري» من دون تعليم، بل يرى نصيف أن «قراءة الفخري لا تحتاج إلى تعليم». هذه الحالة «مجهولة المنشأ فريدة السلوك» لدى البحارنة وأهل الشرقية، وضعت لنفسها نظاما ثابتا، إذ على القارئ الافتتاح بالبسملة والاسترجاع وتعظيم الأجر للمؤمنين، وعند الاختتام يقول «نسأل الله تعالى أن يرحمنا بالحسين وجدّه وأبيه وأمّه وأخيه، والفاتحة تسبقها صلوات». كل ذلك في رمزية تشير إلى أن «الفخري» كان إلى فترة مخاضا طبيعيا للخطباء قبل أن تقوم الحوزات والمواكب بدورها.
الحاءات الثلاث
قراءة الفخري التي لم يكن صاحبها إلى وقت قريب يسعى من ورائها إلى كسب مادي أصبحت كغيرها مهنة للتكسّب في بعض المناطق. وبالعودة إلى رجالات الطريقة فإن «الفخريين» يتذكّرون أصحابهم وأساتذتهم بإكبار، إذ هم «أهل معرفة» وإتقان للمهمّة، وهنا تتطارح الأسماء فيما بينها، وما يفرّق بينها أن يقال إن «هذا كان حافظا للفخري»!
«الفخريون/ المحدّثون» يرون أن إتقان العربية أصبح عاملا مؤثرا في الجاذبية والمؤثرية، ومن العوامل الصوت ولاسيما لإنشاد الشعر. أحمد الجمري له فلسفته في أن «3 حاءات مهمة لقارئ الحديث (الحسّ، الحفظ، الحظ)»، فيما بدا الشاب عبدالمحسن مصرّا على اعتبار الالتزام والتقوى شرطا مؤهلا للقراءة. ولدى سؤالنا عن إقبال الشباب على «الفخري» يلفت نظرنا العزوف الواضح منهم بل ومن الكبار أنفسهم، ولذلك عوامله. نصيف يحمّل «الإعلام» المسئولية، فيما يرى الجمري أن تقارب أوقات القراءات أسهم في تقليص وقت الاستماع للفخري، بل وأجبر بعض المآتم على إغلاق سمّاعاتها الخارجية حتى القراءة، فيما رأى عبدالمحسن أن السبب هو الفعاليات الجديدة البديلة، ولكن الجميع اتفق على أن التوجه حاليا يرتكز على الحضور للخطيب بشكل أساسي، مترحّمين على «أيام عزّ» الفخري وأهله.
العدد 1600 - الإثنين 22 يناير 2007م الموافق 03 محرم 1428هـ
مأثر
للحديث واذا كات يقرأ بخشوع وصوت شجي يأثر اكثر من الخطيب بكثيييير