لاتزال الديمقراطية غريبة على مجتمعاتنا العربية... والناس لاتزال تجهل الكثير من المفاهيم الديمقراطية، أو بالأحرى تفتقد الوعي الديمقراطي، والناس أعداء ما يجهلون – كما يقال - وإلى عهد قريب كان بعض المشايخ – المحسوبين على التيار الديني - يعتبرون الديمقراطية بدعة من بدع دول الكفر والضلالة ورجسا من عمل الشيطان، وينظرون إلى الدعاة إليها بأنهم متمردون على تعاليم الدين الإسلامي. وحين أعلن عن فرض الديمقراطية من قبل أميركا وبعض الدول الأوروبية، وحينما أراد البعض تجربتها على أرض الواقع، هرع البعض من هؤلاء المشايخ إلى المشاركة في اللعبة الديمقراطية، وأصبحوا يتشدقون ويتباهون بها، وكأنهم سدنتها وخزنتها وحماتها، وإن كانوا لا يرغبون في سبر أغوارها، ونشر مفاهيمها بين عامة الناس، ما حدا بالبعض إلىاتهامهم بأنهم يتحيّنون الفرصة للإنقلاب والانقضاض عليها.
في حين نرى أن البعض لايزال يجهل تعاليم ومفاهيم اللعبة الديمقراطية، وإن اشترك في اللعبة السياسية ودخل حلبة البرلمان وساحة الميدان، فهو يعتبر نفسه ممثلا لمنطقته أو جماعته الذين رشحوه وانتخبوه ليمثلهم في هذا البرلمان، وهذا يعكس مدى جهل هؤلاء بالمفاهيم والتعاليم الديمقراطية، ومن المفروض والمعروف أن يكون النائب في البرلمان ممثلا لجميع أفراد الشعب، بغض النظر عن مناطقهم أو انتماءاتهم الفكرية والمذهبية، وكل فرد من هؤلاء النواب سواء انتخبته بعض فئات الشعب، أم لم تنتخبه، فهو مسئول ومطالب بتمثيلهم تحت قبة البرلمان .
وهناك البعض من هؤلاء النواب، ممن لديه ارتباط وثيق بالسلطة التنفيذية، فهو يهادنها ويجاملها تارة، ويتصرف مع ما يناسب مصالحها ويحقق رغباتها تارة أخرى، ضاربا بعرض الحائط كل ما تعهد به في أجندته الانتخابية أمام ناخبيه، ومتناسيا مصالحهم وتطلعاتهم وما يطمحون إليه، وهناك أسباب كثيرة دعت مثل هؤلاء النواب إلى أن يسلكوا هذا الدرب، وينزلقوا في هذا المطب، بحسب قناعات ومصالح خاصة ومتبادلة بينهم وبين السلطة التنفيذية، ولسنا بصدد الخوض في متاهاتها، والبحث والتحري لمعرفتها والوصول إلى جذورها.
الديمقراطية أصبحت في عصرنا هذا طريقا لكسب الشهرة والجاه والصولجان على مستوى الأفراد والحكومات، واتخذتها بعض الأنظمة الشمولية فرصة لتمرير مخططاتها وتنفيذ مآربها، وما تسعى لتحقيقه من أهداف ونوايا على المدى القريب والبعيد، وتكون هي في مأمن من توجيه التهم والاتهامات إليها، وإثارة الشكوك والشبهات بشأن ممارساتها وتحركاتها، وفي الوقت نفسه تحظى بدعاية وسمعة طيبة في الأوساط المحلية والدولية، ولكن، مهما طال الخداع والتضليل، فستنكشف أهدافها ونواياها إن آجلا أو عاجلا.
وهناك من الدول الكبرى التي تتشدق وتفتخر بأنها من دول الديمقراطيات العريقة، نراها سرعان ما تتنكر لتلك الديمقراطية وتتخلى عنها في أحلك الظروف، عندما تتعارض أو تتضارب مع مصالحها وأهدافها. وما قامت به أميركا والدول الأوروبية الأخرى بحجة محاربة الإرهاب في بلدانها، وما اقترفته من انتهاكات صارخة في أماكن متعددة من هذا العالم، وخصوصا في سجون غوانتنامو في كوبا، وأبوغريب في العراق، وفي سجونها السرية في بعض الدول الأوروبية وغير الأوروبية، وما جرى من جراء غزو أفغانستان والعراق من قبل أميركا من كوارث وويلات ودمار ومآس، وما ارتكبته وترتكبه من مجازر ومذابح بحق الأبرياء هناك، بالإضافة إلى دعم ومساندة الكيان الصهيوني، وما يرتكبه من أعمال وحشية وبربرية بحق الأبرياء من أبناء الشعب الفلسطيني المظلوم، لهو أكبر دليل وخير برهان على التعدي على الديمقراطية وانتهاك حقوقها ومكتسباتها.
فأين واحة الديمقراطية الفيحاء؟... وأين الجنة الموعودة التي وعدوا الناس بها في العراق؟... التي حولوها إلى ساحة من سوح الحرب وإراقة دماء الأبرياء، ووكرا من أوكار القتل والجريمة المنظمة... وأصبح أبناء الشعب العراقي لقمة سائغة لعصابات الإرهاب من «القاعدة» والتكفيريين المتحالفين مع عصابات النظام البائد، وأصبحت العراق جحيما لا يطاق... وأين الأمن والأمان والسلام الذي توقعوه أن يعم في ربوع أفغانستان... التي لاتزال تشتعل فيها النيران وتدور فيها رحى المعارك والقتال في كل مكان؟!
وما الإنقلاب على الديمقراطية والتنكر لها في الكثير من البلدان، مثل الجزائر التي رفضت القبول بنتائج الانتخابات التي لم تكن في صالح الحزب الحاكم في التسعينات، وفي فلسطين التي رفضت أميركا والكيان الصهيوني نتائج الانتخابات فيها، وقام الكيان الصهيوني باختطاف الكثير من الوزراء والنواب في الحكومة المنتخبة من قبل الشعب الفلسطيني، واعتقالهم اعتقالا تعسفيا وظالما ، وغضت أميركا والدول الأوروبية وغيرها الطرف والتزموا الصمت، أمام تلك الإجراءات والتصرفات البربرية والهمجية، والاستهتار بكل المبادئ والأعراف والمواثيق الدولية من قبل ذلك الكيان الغاصب.
وما التزوير والتدخل السافر والمفضوح من قبل السلطات والأحزاب الحاكمة في بعض الدول الشمولية، لتغيير نتائج وسير الانتخابات البلدية والبرلمانية والرئاسية، إلاّ إمتداد لما تتعرض له الديمقراطية من هجمة شرسة واختراق فاضح لتعاليمها ومبادئها، وتجاوزات خطيرة تهددها وتزلزل أركانها، وتفرغها من محتواها ومفاهيمها ومن أهدافها السامية والنبيلة، التي هي تمثل أسمى معاني العدالة والحرية والعزة والكرامة، للشعوب في جميع دول العالم - بلا استثناء - إن هي طبقت بحذافيرها.
وأخيرا، ها هي أميركا التي أرادت أن تفرض الديمقراطية على الدول العربية وغيرها، وتلزمها بتطبيقها على نظام الحكم السياسي فيها، لتتمكن من إعطاء شعوبها المزيد من الحريات العامة، ورفع الحصار والضغوط والظلم الذي تعاني منه تلك الشعو، ولكن اتضح أن أميركا لم تكن جادة في الأمر، ففي بعض المحاولات والتجارب لتطبيق الديمقراطية في بعض الدول، جاءت النتائج بما لا تشتهي سفن أميركا وتلك الدول التي خاضت التجربة، فأدارت أميركا ظهر المجن لتلك الديمقراطية المزعومة، فتركت الحبل على الغارب لتلك الأنظمة، وغضت الطرف عنها، وهذه الدول أصلا لا تحبذ أن تتخذ النظام الديمقراطي بديلا، وهي في واقع الأمـر لا تستسيغها ولا تميل إليها، وتعتبرها حجر عثرة في طريقها، وهي التي تعودت على حكم الناس بالحديد والنار، في ظل أنظمة شمولية ودكتاتورية. وتظل الشعوب في النهاية هي الضحية دائما، وهي التي عادة ما تدفع الثمن الباهظ لأهواء ورغبات الكبار ومن يدور في فلك أميركا، وتتعرض للظلم والتنكيل والممارسات القمعية والهمجية الوحشية من قبل تلك الأنظمة الشمولية، وإذا ما أرادت أن تطالب بحقوقها وتستعيد حريتها وعزتها وكرامتها، فستكون المواجهة الدامية من قبل عساكر السلطات مصيرها المحتوم، وستزج بجموع الجماهير في غياهب السجون والمعتقلات، لتكون مقرها ومستقرها المشئوم .
محمد خليل الحوري
العدد 1743 - الخميس 14 يونيو 2007م الموافق 28 جمادى الأولى 1428هـ