عدتُ إلى البيتِ وأنا أتأجَّجُ غضبا. كانَ الجوّ اللاهبُ في الخارج سببا كافيا لإثارة حـَنـَق المرء ونقمته، فما بالك بفتاة ٍ في شرخ ِ الشبابِ اجتمعت عليها الأسباب، فجعلتـْها تعود كلَّ يوم ٍ حاملة شظايا أجنحتها المتكسّرة ونثار أحلامها الكبرى في ملف سيرتها الذاتية وحقيبة يدها المخمليّة!
كنتُ قد جنيتُ أرفع أوسمةِ الامتياز عند تخرّجي من الجامعة الوطنية قبل حولٍ أويزيد، وكنتُ في لجّةِ بهجتي بالتميّز وإقبالي على المستقبل، قد نسيت ُ-أو تناسيتُ- أنَّ الحقيقة غالبا لا تبتسمُ للحلم، وأنَّ الواقع لا يُحـَيّي الآمالَ مهما كانتْ رفيعة، فظننت في غبطة ٍ جاهلة أوجهل ٍ مغتبط أنِّ عسرَ الحصول على عمل لا يتعدّى كونه وهما يتشدّق به الكسالى، وأنَّ التعطـّل وضعٌ بعيدٌ كلّ البعدِ عنّي، لا يمكن أن أعيشهُ ما دامت أنجمُ إنجازاتي الأكاديمية تتألـُّق على شهادة تخرجي. وكان يكفيني سنة ٌ من ذلكَ لأتبيّنَ الحقيقة، ولتهَويَ روحي إثرها من علياءِ الأمنيات وترتطمَ بالأرض، متعفـّّرة بغبار البطالة.
صفقتُ بابَ غرفتي، ورميتُ -كيفما اتـّفق- بمفاتيح سيارتي ووشاحي المورّد الذي ارتديتـُه من أجل مقابلة العمل الثالثة خلال هذا الأسبوع، رميتهما بعصبية وانخرطتُ في بكاء حار.
في تلك اللحظة، دخلت الغرفة َ شقيقتي الصغرى ذات السنوات السبع، لتحيّيني فرحة وتركضَ إلى أحضاني كعادتـِها في كلِّ مرّة. ولكنني أشحتُ عنها حانقة ونهرتـُها، ثم انكفأتُ على نفسي أذرفُ العبرات المحرقة. انصرفتْ شقيقتي حزينة، لكنّها سرعان ما عادتْ إلى جانبي بصندوق لـِعَبها وانكبّتْ على ما في يديها بهدوءٍ تامّ.
بعد دقائق، لفتَ نظري هدوءُها، فقد كانت طفلة حيوية صاخبة لا تعرف للسكون سبيلا خصوصا أثناء اللعب. ناديتـُها بصوتٍ أبحّه البكاء، فرفعتْ رأسَها الجميل نحوي وابتسمتْ عيناها البرّاقتان لي. حينئذ تسنى لي أن أرى ما بين يديها. كانتْ قد صفــّتْ عدّة أكواب ملوّنة مقلوبة على الأرض بشكل متواز. قالت الصغيرة: هل تلعبين معي لعبة المسابقة؟، رددتُ عليها بغير اهتمام: وما هـِيَ؟
قالتْ أسماء (على طريقة مسابقات الربح التي نشاهدها في التلفاز):إذا عرفتِ أيّ هذه الأكواب الأربعة يخفي دمية صغيرة، فستنتقلين للمرحلة الثانية من المسابقة!
قلتُ وقد شدّتني اللعبة: الكوبُ الأحمر؟
مدّتْ يدها الغضّة نحوه ورفعتْه، فإذا بداخل الكوب دمية على شكل أرنب صغير.
اتـّسعتْ ابتسامتي وتحمّستُ لمواصلة اللعب، فخبـّأتْ أختي الأكواب عنّي لثوان ٍ، ثم قالت لي:إذا اكتشفتِ موقع الكرة الملوّنة الصغيرة بين هذه الأكواب فستتقدمين للمرحلة الثالثة! اخترتُ، وكان اختياري صحيحا. لا أنكرُ أنني أحسستُ بالزهو لقدرتي الرائعة على التخمين والتي لم أكتشفها قبل اليوم، خصوصا حين صحّ تخميني في المرة الثالثة أيضا.
ابتسمتْ أسماءُ ابتسامة أثيرة، ثم قالتْ بمرح: والآنَ وصلتِ إلى النهائيات! وإن اكتشفتِ تحت أي كوب توجد الشمعة نجميّة الشكل، فإنّك بكلّ تأكيد، ستنالين لقب أحسن أخت في العالم!
سألتُها: وإذا لم أكتشفها؟، اتـّسعتْ ابتسامتُها وردّت: تكونين في هذه الحال….تكونين…ثاني أحسن أخت في العالم!
ضحكتُ لقولها، ثم قضيتُ لحظات ٍ في التفكير، أوبالأحرى في استنزال إلهامي الحدسيّ خطير الشأن، ثم استقرّ بي المقام أخيرا واخترتُ الكوب البنفسجي، وكم فرحتُ حين وجدتُ شمعة فضية لامعة على شكل نجمة خماسية الأضلع، تستقرّ تحت الكوب. صفـّقتْ أسماء ببهجة واحتضنتي، ثم طبعتْ قبلة على خدّي وغرّدتْ: أنتِ أحسن أخت في العالم! امتلأ خافقي بالسرور لذلك، ونسيتُ همّي ولو إلى حين، ثم قضيت سحابة يومي في إنجاز أعمالي.
في المساء حين خـَلـَدتْ الصغيرة إلى النوم، وجدتُ أنَّ صندوق اللـِّعَب المزخرف لا يزال في مكانه بالغرفة، وأنَّ الكؤوس الملوّنة لا تزال مقلوبة كما كانتْ. رفعتُ الأكوابََ الثلاثة المتبقية بغرض وضعها في الصندوق، ولمفاجأتي، رأيتُ تحتها ثلاث شمعات متطابقة نجميّة الشكل! فتحتُ الصندوقَ مندهشة لأجد فيه أربع دمى صغيرة لأرانب مختلفة الألوان، أربع كرات ملونة، وأربع سيارات صغيرة.
فكّرتُ بالأمر لوهلة، ثم ابتسمتُ بفرح ٍ بادٍ لا يخلو من حب ٍ وإكبار ٍ عظيمين، وهمستُ لنفسي التي انغمرتْ في تلك اللحظة برّقة شقيقتي الصغرى وحنانها الدافق: لقد كـَشـَفـَتْ هذه اللعبة، وبكلّ تأكيد، من منّا تستحق لقب أحْسَن أخت في العالـَم!
مريم حسين المهدي - بريطانيا
العدد 1891 - الجمعة 09 نوفمبر 2007م الموافق 28 شوال 1428هـ