أعزائي الكرام أتطلع بكم إلى حلقة خاصة نابعة من تراث ماضينا العريق بشأن المياه وعلاقة امهاتنا وجداتنا بالعمل المظني فيه، وبالرجوع معكم بامتداد الحلقة الخاصة التي وثقناها سابقا عن جفر الدراز الحلو لتكون لنا رجعة في ذلك المكان ولكن هذه المرة بقراءة أخرى...
في زمن الجلبان
كيف تصل المياه إلى بيتك؟
قسم من البيوت ربة البيت تقوم بجلب المياه الجيدة من جفر الدراز الحلو للاستنفاع العائلي منه في الشرب والطبخ والسباحة، وهي عملية متعبة خصوصا وأن المنازل بعيدة ومتفرقة، وبالتالي تقوم ربة البيت بتوفير كميات كبيرة منه، وتخزنه في أوان معدنية كبيرة، أو أوان فخارية كبيرة وصغيرة.
تنتدبن نساء جيران الحي بعضهن للذهاب إلى ذلك الجفر على شكل مجموعات رباعية أو ثلاثية ويقطعون الطريق المؤدي إلى الجفر بأحاديث ودية مسلية، ويتم لقاء نساء أخريات عند مداخل الحي المتفرعة والتي تصل إلى الجفر من جميع الاتجاهات المتفرعة، حين وصول النساء إلى الجفر تجد هذه النساء أن هناك من سبقنهن للوصول إلى الماء وبالتالي يتطلب منهن في المرات القادمة التبكير وهي عادة متأصلة في نساء الدراز من قبل.
وصف المنطقة
طبعا الجفر يقع في الفريق أو الحي الشرقي في ذلك الوقت يحيطه مأتم الشرقي من الشرق وبيت محمد طاهر من الجنوب وبيت محمد كاظم من الشمال ومن الغرب تمتد براحة لتصل لمجموعة من البيوت في طرفها الشمال الغربي حيث بداية الحاج حسن آل شهاب أبو محمد كاظم. كما يحيط بالجفر مجموعة من النخيل وبعض الأشجار والتي ترتوي من ذلك الماء العذب.
تجلس النساء نصف جلسة على شكل دائري محاطة بذلك الجفر وفي يد كل واحدة منهن برميل أو ما يسمى بـ (الجذلة) يتدلى منه حبل طويل ترميه إلى عمق الجفر ليمتلئ بالماء بعدها تسحب الحبل باليدين بشكل تدريجي ميكانيكي وبحذر كي لا ترتطم الجذلة بجدار الجفر، ويتدفق منه الماء، هذا في حال السحب، أما في حال رمي الجذلة فليس هناك عملية تدريجية أو حذر وإنما هناك رمية مباشرة تحدث أصواتا موسيقية متناغمة بفعل الارتطام بين الماء والجدار وصوت المعدن وعمق الجفر وصداه وبين الجذلة المملية والجذلة الفارغة كل هذه تؤلف قطعة موسيقية لم تتدرب عليها النساء. وحين وصول الجذلة إلى حافة الانتهاء تقوم النسوة بملء جرارها وأوانيها لتعود مرة أخرى بالعملية نفسها المسماة (التمطير).
طبعا توجد نساء تساعد بعضهن وذلك بتقسيم العمل بينهن واحدة تقوم بعملية التمطير والأخرى تأخذ منها الجذلة بعد أن تملأ لتفرغها في الأواني.
حين سقوط أحد النساء في الجفر ينادى على الحاج المرحوم عبد الكريم بن شهاب أبو الأستاذ محسن عبد الكريم والذي صار متأهبا لإنقاذ من يسقط في ذلك الجفر (سمي فيما بعد بالمنقذ) حيث يرمي بكيسة قوية مصنوعة عسق النخيل يتدلى في وسطها حبل متين توضع الغريقة في الكيسة لتسحب من أعلى حيث تدير النساء عليها حلقات.
منظر الجفر في ساعة الدروة كالتالي:
مجموعة تشطف الثياب وتغسلها بعيدا عن حافة الجفر وعلى صخور بيضاء كبيرة، ومن بين الصخور تسيل أودية من الماء لتروي الأشجار القريبة.
مجموعة ثانية تقوم بعملية نشر الثياب المغسولة على غصون الشجر والنخيل وبعض الحبال، وانتظار آخر من نساء للعملية نفسها.
مجموعة ثالثة تفرك الأواني الفخارية بقطع من الصخور القوية مخلوطة بالرمال والماء لتكون أكثر بهاء و زهاء وتضعها قبالة الشمس لمدة من الوقت.
مجموعة رابعة تقوم فيما بينها بعملية التجميل وحك الكعوب والأقدام والكواحل والأيدي بقطع من الفخار المتكسرة حول المنطقة، وتمشيط الشعور بعد غسلها بذلك الماء الحلو مع الطين البحري المجلوب من البحر القريب من الساحل وفوارة الدراز الشهيرة، وهذا الطين يحل مكان الشمابو والصابون ومفعوله قوي ويعطي نتائج حسنة.
مجموعة خامسة : تتكئ على مجموعة من الصخور يتناولن أطراف الحديث وأخبار الليلة الفائتة وبعض قصص وحكايات ذلك الزمن ومن بين أحاديثهن تمر عليهن قافلة من الأغنام ومجموعة من البط والوز ناهيك عن منظر الطيور وزقزقة العصافير وهديل الحمائم لحين ينفرج لهن أي النساء عن ذلك الجفر ليبدأ عملهن من حيث انتهت الأخريات.
مجموعة سادسة تقوم بغسل الأواني المعدنية الخاصة بالطبخ من قدور ومقال ودلال الرسلان الخاصة بالقهوة العربية وغيرها باستخدام الرمال وليف النخل وقطع من كسار الفخار، واستخدام القوة العضلية لجعل الأواني ساطعة لامعة.
مجموعة سابعة تقوم بمساعدة زميلاتهن بحمل الأواني على ظهورهن لبداية انطلاقتهن إلى منازلهن يعلوهن الصبر والهمة فيما يجدنه من تعب وطول الطريق.
كيف تحمل النساء
هذه الأواني؟
لو قدر لك مشاهدة النساء وهن يحملن هذه الأواني لدهشت من ذلك المنظر وذلك لعدة أمور :
1) نوع اللباس وطريقة لبسه : ترتدي نساء الدراز في ذلك الوقت (المقنعة) السوداء وهي سميكة من نوع التترون وعادة ما يكون ثمنها بثلاث إلى أربع ربيات هندية في ذلك الوقت وتشترى من البزاز الحاج سعود بن عبد الوهاب أو أحد البزازة من خارج الدراز، حيث تلتم النساء عليه حين سماع صوته ينادي (آرناق... أرناق). والمقنعة تكون كبيرة للف الجسم حيث توضع المرأة على رأسها وتقوم بعملية طي جزء من أطراف المقنعة على الرأس يتلاقى طرف اليمين مع الشمال لتتمركز على الرأس بصورة مثبتة كتغتيرة الرجال.
2) عند ذهاب المرأة إلى الجفر تلبس على مقنعتها كيس أرز فارغ تسمى بالمصطلح الدرازي (جيس وهذا الكيس يعمل على شكل قبعة مثلثية بحيث تحرك إحدى زواياه إلى داخل الزاوية الأخرى وتكون مجوفة وتوضع على الرأس.
3) تقوم المرأة بحمل مجموعة من الأواني الفخارية تربط بحبل من ليف النخيل من صناعة المرحوم الحاج عبد العزيز الفتلاوي مجموع هذه الأواني ثماني قطع (أربع مساخن وأربع بغال أو شربات) بحيث تكون موزعة كالاتي:
مسخنتين في جهة اليمين تعلوها شربتين، ومسخنتين على الشمال تعلوها شربتين أيضا.
تقوم اثنتان من النساء بمساعدة زميلتهم وذلك برفع هذه الأواني كلها على رأس المرأة وتتدلى المساخن على كتفي المرأة حيث يتوسط الرأس الحبل الرابط بين هذه الأواني، وحين التثبت ترفع إليها أيضا آنيتين فخاريتين تمسكها بأحدى الاصابع الفارغة في الشمال واليمين بحيث تصبح أصابع المرأة في هذه العملية كلها مشغولة وتسمى مجموعة الأواني الفخارية المتصلة بحبل واحد بـ (القربعية). وإذا وصلت المرأة إلى بيتها تحتاج لمن يساندها في طرح هذا الحمل الثقيل وذلك بمناداتها على بناتها أو جاراتها.
مصطلحات
الجذلة: برميل أو إناء عميق يستخدم لسحب الماء من الجفر يربط من جهتين بحبل واحد ثم يربط في وسط هذا الحبل حبل آخر طويل. كل إمرأة تحمل لها جذلة.
التمطير : عملية سحب الماء من الجليب أو الجفر.
المسخنة : هي آنية فخارية كبيرة الحجم تبدأ من القاعدة ثم تتوسع في الوسط وتضيق عند الرقبة و الرقبة طويلة توجد بها عروتين للحمل وفتحة المسخنة واسعة.
البغلة أو الشربة : وهي إناء فخاري تستخدم للشرب وهي على شكل المسخنة ولكنها أصغر منها حجما وبها ثلاث عراوي.
الكربعية: (القربعية) هي مجموعة الأواني المحمولة على رأس وكتفي المرأة يربطهما حبل.
عزيزي القارئ تأمل منظر المرأة وهي تحمل كل هذه الأثقال العظيمة على جسدها، ألا يدعو إلى التأمل في إخلاص المرأة الدرازية لأسرتها وحبها المؤثر.
ألم تشق تلك المرأة وتموت في اليوم أكثر من مرة. ألم يصل ألمها ذروة الألم المتناهي... فيا جدتي التي غابت ويا أمي ويا خالتي وعمتي وجارتي بنبض الحنين الذي غفا على رموشي وبصدى نبضاتكم التي ألفت لوحة القدر وبامتداد المسافات الباهتة أرسل لذاكرة الزمن خفقات ينابيعها أسى، بعد أن فارقت الدراز مواسم شوق، مواسم توحد في ليال مقمرة، ومداعبات لقلوب غامرة، فأين نحن، وأين هم فانظروا رحمكم الله ماذا خلفتم، ولكن على رسلكم ناموا فلا مسافات تفصلنا غير زمن بذرات ونداء أخير
القلم المتأمل - شبكة الدراز الشاملة
العدد 1897 - الخميس 15 نوفمبر 2007م الموافق 05 ذي القعدة 1428هـ