العدد 2085 - الأربعاء 21 مايو 2008م الموافق 15 جمادى الأولى 1429هـ

تعود مريم فتتألق البيادر

يتحسس خطاه في تلك العتمة باحثا لرجله عن موطئ، دون أن يتعثر في طريقه، إلا أنه يصادف ذاك السرير، والجسد المسجى فوقه، فيرتطم به من فرط العتمة، سائلا: عندما التزمت بدفع الفواتير، قطعوا عني الكهرباء؟!

ما كان ذلك سوى (جابر)، الممثل الأوحد في العمل التجريبي الذي قدمه مبدع مسرح البيادر الفنان والمخرج جمال الصقر، وهو المبدع الشاب عادل الجوهر، الذي جعل أركان ذاك المسرح ملعبا يطوف حناياه، متقمصا دور العاشق الذي أهدرت حبيبته كرامته، وباعته للعيش مع شخص آخر.

لم تكن العتمة التي تحدث عنها (جابر) من انقطاع النور، وإنما انقطاع صوت المذياع الذي كان ينقل له عذب ألحان أغاني أم كلثوم، والتي كان يؤديها الموسيقي المتميز علي العليوي في ركن المسرح، والذي قدم بصمت مبتسم، مجموعة من الخلفيات الموسيقية والمؤثرات الآنية للمشاهد التي كان يؤديها ممثل المسرح الأوحد.

يبحث (جابر) عن أعواد الثقاب، متحسسا الأرض حوله خشية الاصطدام، لينير الشموع، فتخبو الأعواد وتنطفئ في يده، حينها يبقى في يده آخر عود ثقاب، فيلجأ للبحث عن الشموع لينيرها، وما إن يتحقق له ذلك، حتى تأتي أصوات موسيقى أم كلثوم من المذياع، فيدرك (جابر) عودة النور من الصوت، إذ إنه كفيف لا يرى ما حوله.

ما إن يطفئ (جابر) الشموع، حتى تعود الكهرباء للانقطاع مع اختفاء صوت الموسيقى، حينها يدخل جابر في حوار مع أمه المسجاة على السرير، فيما يكون الحوار قطعا غير مترابطة، إذ لا يكلم (جابر) سوى نفسه، ويغفوا حينا ليفيق على صوت الهاتف، وهو يرن بمكالمة من ابنته، التي تعلمه بقدومها لزيارته وجدتها، فيطير فرحا مستذكرا زوجته وحبيبته السابقة (مريم).

عودة مريم هو عنوان ذلك العمل الذي ألفه وأخرجه جمال، ومن هذه النقطة، يبدأ (جابر) بتخيل أمتع اللحظات حينما يستقبل (مريم) عائدة له بعد طول غياب، ليعيش خلال اللحظات اللاحقة مشاهد خيالاته بعودتها، ومشاهد صراعه مع أمه، التي تشكل سبب فراقهما وانفصالهما، فيما قلب جابر الطيب، يبحث من سبيل إلى نسيان الماضي وخيانة هذه الزوجة له، أملا في استعادة هذا الحب المفقود. في هذه اللحظات، يقدم الفنان عادل الجوهر جملة من المشاهد المرتبطة بالكوميديا السوداء، إذ يراقص قشة التنظيف، ويحاورها، ويجعل من تلك الحوارات مداخل لإثارة ضحكات الجمهور وتصفيقهم كسرا لروتين العمل التجريبي.

الأم لاتزال تدور في عقل (جابر) فتراه أحيانا يتوقف عن حواراته مع القشة، ليقنع أمه بضرورة العفو عن (مريم)، أو بمعاتبتها على ما تسببت فيه بينهما، ويصل في بعض الحوارات - التي تدور بينه وبين نفسه - ليستشيط غضبا على أمه، ويقوم بضربها أو محاولة خنقها.

في هذه الأثناء، يبرز الدور الكبير الذي أداه مصمم السينوغرافيا علي سيف، ومصمم الإضاءة ياسر سيف، اللذان استطاعا تحقيق الكثير على تلك الزاوية الخشبية، من خلال توظيف آليات وتقنيات تعكس أجواء الشتاء بهطول المطر، تساقط الثلوج، الرياح وتسرب المياه من سقف المنزل.

يجيش جابر حزنا في تلك الأثناء لبعد الأحباب عنه، وتركهم إياه لمصيره، وهو الكفيف الذي لا يرى من الدنيا سوى ما يصوره قلبه المشتعل بالحب.

تكون خاتمة المسرحية بمشهد اتصال، يتلقاه (جابر) من (مريم) التي تمثل الظهور الأوحد للفنانة عهود سبت في المسرحية، إذ حينها تشيط به غضبا، محذرة إياه من التحدث إلى ابنتهما أثناء زيارتها لجدتها، واصفة إياه بأبشع الوصوف، لتصفعه بأن البنت ما هي إلا ثمرة زواجها من صديقه، ولا تربطها به أي شيء.

بذلك، يكون صقر البيادر الفنان جمال قد قدم للجمهور ذلك العمل المخفي الحقائق، ذي الأحاسيس المبرزة، وقد ساهمت قدارت الفنان عادل الجوهر وأداؤه في تشكيل العمل وفق السيناريو، والرؤية الإخراجية لجمال.

العدد 2085 - الأربعاء 21 مايو 2008م الموافق 15 جمادى الأولى 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً