ينطلق الأكاديمي العراقي إبراهيم العاتي في مؤلفه «أحمد الصافي النجفي: غربة الروح ووهج الإبداع» بعبارات اختصر فيها شخصية هذا الشاعر النجفي وفيها يقول: «آثر الفقر ليصون كرامة الشعر، ورضي بالتشرّد لينعم بالحرية، ورفض التصنع ليهتك أقنعة الزيف».
في هذا الكتاب يقدم العاتي سيرة أحمد الصافي النجفي، سيرته الحياتية والشعرية، مستثمرا معرفته الشخصية بالرجل فخرج الكتاب عن كونه بحثا أدبيا في شعر الصافي ليزوقه الكاتب بتفاصيل حياتية عايشها في لقاءاته بالشاعر في سورية، حتى أنه يبدأ الكتاب بالحديث عن لقائه بالشاعر إبان دراسته في دمشق.
يحتوي الكتاب الصادر عن دار العلم للطباعة والنشر، على 208 صفحات من الحجم المتوسط، تضمنت سبعة فصول استعرض فيها الكاتب حياة الشاعر الصافي في مختلف تجلياتها، ففي الفصل الأول يتحدث عن الصافي الإنسان الذي عاش الغربة الشاملة، غربة روحية واغتراب على الصعيد الاجتماعي كما على الصعيد الديني والنفسي، غربة يقر الصافي ذاته بأن أكثرها حدة وإرهاقا هي تلك الغربة الفكرية، وفي ذلك يقول: «فأبصرت طعم الكل مرا وقاسيا / ولم أرَ أقسى قط من غربة الفكر». والصافي المريض والصعلوك والفقير الذي لا يملك مأوى غير المقاهي فيها تدر قريحته أجمل الأشعار ولا صاحب له غير الصحف تربط بينه وبين العالم الخارجي وتعيش معه حالاته الإبداعية الطارئة فتستحيل مسودات لقصائده التي تأتي أبياتها على غير موعد.
على أن الصافي كما يتحدث عنه إبراهيم العاتي، لم يكن أبدا ذلك الشخص المطيع الذي كسرت ظهره أعباء الحياة ومشكلاتها فطوعته ليكون كما أُريد له، فعلى العكس تماما «جُبل الصافي على التمرد منذ مطلع حياته، وهو تمرد شمل كل ما هو مألوف واستقر عليه المجتمع من أعراف وطقوس وعادات وتقاليد في كل مجال من مجالات الحياة».
أما الفصل الثاني فقد خصصه الكاتب للحديث عن الشاعر أحمد الصافي من خلال عالمه الفني، إذ اعتبره «شاعر المعاني» ذلك أنه يعتمد البساطة في بناء القصيدة، وهو السهل الممتنع الذي يأتي في مرتبة «السحر المحير» فالصافي كما يذهب إليه مؤلف الكتاب «يهتم بالروح الشعري ولا يهمه في أي لفظة جاء».
ويرى إبراهيم العاتي في حديثه عن علاقة الشاعر أحمد الصافي النجفي بالفلسفة وهو محور الفصل الثالث من الكتاب بأن شعر هذا الأخير كان ذا توجه فلسفي مس شعره فحفلت قصائده بمواقف الحيرة والشك.
ولم يقتصر الكاتب على الحياة الفنية للشاعر من حيث هي نظم للشعر وإنما خاض فيها في الفصل الرابع من حيث هي علاقات مع الشعراء الآخرين قدامى ومحدثين، علاقات تشابه حينا وتضاد أحيانا أخرى ففي الوقت الذي يعتبر فيه أنه يشترك والمتنبي في صفة الإبداع من خلال قوله: «إن نارا في شعره أحرقته/ مثل نار في الشعر قد أحرقتني»، يرفض أن يعترف بأحمد شوقي أميرا للشعراء معتبرا أن إيليا أبوماضي أجدر بهذا اللقب، ويرجع العاتي عدم اعتراف الصافي بإمارة شوقي للشعر لتناقضه معه شعرا وسلوكا ذلك أنه ولى العكس من شوقي الذي عرف عنه افتخاره بلقب شاعر البلاط، كان الصافي يعلن رفضه مدح الأمراء والملوك بالقول: «وأمير رام أن أمدحه/ قلت أحتاج لمن يمدحني».
في السياسة كان للصافي باع وقد كانت تجربة السجن مؤثرة ألهمته ديوانا كاملا أسماه «حصاد السجن»، ويضيف إبراهيم العاتي في الفصل الرابع من الكتاب متحدثا عن توجهات الشاعر النجفي السياسية: «كان الصافي حتى فترة الأربعينات ثوريا في توجهاته السياسية، لكنه تحول شيئا فشيئا إلى المحافظة» مضيفا أنه كان معتزا بعروبته حالما بتوحد هذه الأمة في وطن واحد.
علاقة أحمد الصافي النجفي بالمرأة كانت كما وصفها العاني وعنون بها الفصل السادس من كتابه «تودد المحب وسخط العازب» فعلى رغم تقليله من شأن المرأة وتشبيهه إياها بالخمر التي تذهب العقل، فإنه لم يمنع نفسه من خوض تجارب عاطفية كما لم يحل بينه وبين وصف حالات الإعجاب بجمال المحبوبة في الكثير من أشعاره. ولم يهمل الكاتب الجانب الديني في شخصية الشاعر وأفرده بالفصل السابع من الكتاب ويذكر في هذا الخصوص أن الصافي عاش «أزمة روحية وفكرية نقلته من شواطئ التسليم واليقين إلى بحار الشك والجحود، ثم عودته ثانية إلى رحاب الإيمان».
العدد 2099 - الأربعاء 04 يونيو 2008م الموافق 29 جمادى الأولى 1429هـ