قد تكون كتابات السجن مجرد تطهير لذوات أصحابها، أو محاولة للتخلّص من ثقل فظاعات الجراح والألم، الجسدي والمعنوي، وقد تكون أيضا أعمالا أدبية كاملة تحمل كل مقومات العمل الأدبي، الذي يشكل الخيال جزءا من بنيته، لكن هذه الكتابات فرصة أيضا لأجيال اليوم والمستقبل، لم تعش سنوات الجمر، للوقوف على جزء من الثمن الذي دُفع من أجل أنْ يعيش المغرب تحوّله اللازم والضروري. وقد كان هذا الثمن باهظا في كلّ الحالات، سواء تعلق بالموت في الأقبية المظلمة الباردة أو بالاختفاء الأبدي، أو بالزج وراء القضبان بطاقات انحازت لأفكار حملت الكثير من الأحلام قبل أنْ تتحوّل هذه الأحلام نفسها إلى غبار.
وبقدر ما تعكس هذه الكتابات معاناة كتّابها في سبيل الفكرة التي اعتنقوها ، فهي بلا شك تسهم في تشكيل وعي من لم يعايشوا تلك المرحلة بجزء أساسي من تاريخ الصراع السياسي في المغرب، ذلك الصراع الذي نعيش بوادر نتائجه اليوم، حيث اتسع هامش الحرية وصار الخوف من الكلام أقل، مما فتح المجال لكتابات السجن ومراراته لتكون أكثر غزارة ولتعبر عن وحشية المرحلة بجرأة أكبر، ونقد أكثر مضاضة.
وفي سياق هذه الكتابات التي تناسلت في السنوات الأخيرة بشكل خاص، علما أن هناك تجارب سابقة نذكر منها رواية «كان وأخواتها» لعبد القادر الشاوي التي صدرت بينما كان الكاتب يمضي عقوبة السجن، يأتي كتاب الطاهر محفوظي «أفول الليل، يوميات من سنوات الجمر والرصاص»، الذي صدرت طبعته الثانية في إبريل/نيسان 2006
وإذا كان ثمة من ملاحظات أوّلية عن هذا الكتاب، الذي صنّفه صاحبه في خانة اليوميات، هي:
1 - أن هذه اليوميات لا تحمل تواريخ تشير إلى الأيام التي كتبت فيها، على عادة اليوميات كما نجد في «يوميات بوليفيا» لتشي غيفارا مثلا، باستثناء الرسائل المنشورة في الفصل المعنون بـ«رسائل اغبيلة»، وأغبيلة سجن بمدينة الدار البيضاء المغربية قضى فيه الكاتب، والكثير من المعتقلين السياسيين فترات من «عقوباتهم».
ويمكننا هنا أنْ نقرأ، على سبيل الافتراض بالنظر إلى قسوة الاعتقال في سنوات الرصاص بالمغرب، أنّ من جملة معاناة السجن كون السجناء يعيشون خارج الزمن على مستويين أوّلهما أنّ ما تعرّضوا له من تنكيل وتعذيب ومحاكمات غير عادلة وتهريب بعيدا عن أعين الأهل وغير الأهل يتنافى مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي من بينها الحق في المحاكمة العادلة، بتعبير آخر كان هؤلاء في مغرب خارج العصر الذي عرف ميلاد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وشهد تقدّما واسعا باتجاه ضمان الحريات الحريات الأساسية للأفراد. وثانيهما أنهم كانوا فعلا خارج الزمن حيث إنهم لم يكونوا يعرفون اتجاه عجلة الوقت.
-2 تتجاور في هذا الكتاب أجناس كتابية متنوعة بين النثر والشعر والرسائل بالإضافة إلى قاموس «مصطلحات سجنية» المبثوث في الصفحة 168، ولم يفت القاص أحمد بوزفور في كلمة على ظهر الغلاف أنْ يلحظ هذا التعدد بقوله « يضم هذا الكتاب قطعا نثرية صغيرة ومعنونة وكذلك أشعارا ورسائل، وأعتقد أن الشعر الموجود في القطع النثرية أجمل وأعمق تأثيرا»، وهذا التعدد يوحي بشكل ما، بنوع من التمزق الداخلي الذي كان المؤلف فريسة له خلال سنوات السجن، إلا أنها توحي بالمقابل بما كان للسجن من أثر على السجناء في الانصراف إلى القراءة والكتابة وهو ما يشير إليه الكاتب نفسه في الصفحة 121 «إنّ السجن أتاح لكثيرين فرصة نادرة للإبداع والخلق، لكن لم نبق بما فيه الكفاية لخوض هذه التجربة.لقد كتبنا على جرحنا ووشمنا في ذاكرتنا الكثير، والزمن اللعين لم يكن يسمح بالإبداع».
3 - لا يقدم الطاهر محفوظي في «أفول الليل» تجربة سجنه بمعزل عن الواقع السياسي العام في المغرب، قبل اعتقاله وأثناءه وبعد إطلاق سراحه، والكتاب بذلك توثيق لمرحلة كاملة من تاريخ المغرب الحديث. يتفاعل فيه التاريخ الشخصي للسارد/المؤلف مع تاريخ رفاقه في التجربة، وتاريخ نضال اليسار الجديد في المغرب مجسدا بالأساس في منظمتي «إلى الأمام» و «23 مارس» والنقابة الوطنية للتلاميذ.
4 - الوقائع التي يقدّمها الكاتب هي وقائع عارية، يبدو فيها الخيال عاطلا، أو أن الطاهر محفوظي، بالأحرى، عطله عن قصد متوخياَ الاقتراب ما أمكن من بعث هذه الوقائع كما حدثت بالفعل، ويمكن أنْ نستدل على ذلك بجملة كتبها في المقدّمة التي استهل بها الكتاب «لقد توخيت الصدق والدقة، فإنْ أخطأت أو قصرّت فلرفاق التجربة أنْ يصححوا أو يضيفوا، فكلهم مازالوا أحياء باستثناء المرحوم ادريس جنتير».
وهكذا نصادف في الكتاب إضافة إلى لائحة بأسماء رفاق السجن، والقاضي الذي حكم على المجموعة مع نص الحكم، شخصيات مغربية ثقافية وسياسية كان لها الأثر العميق في مسار مجموعة من الأحداث التي عرفها المغرب خلال الستينيات والسبعينيات، ومنها من امتد تأثيرها إلى يوم الناس هذا مثل المهدي بنبركة الذي لم تكشف بعد جميع الخيوط المرتبطة باختفائه، وبهذا يبقى الكاتب وفيا للوقائع وتداعياتها، وبالتالي فهو يقدم شهادته أو رؤيته لما حدث مع استحضار تلك الوظائف الثلاثة لهذا النوع من الكتابات التي فتحت صفحة انتهاكات حقوق الإنسان في المغرب، وتتحدد هذه الوظائف كما أشار إلى ذلك صلاح الوديع في وظيفة توثيقية ووظيفة تربوية ووظيفة علاجية.
العدد 2099 - الأربعاء 04 يونيو 2008م الموافق 29 جمادى الأولى 1429هـ