ريح تكشف تضاريس الجسد، وتكشف في ما تكشف رداء التراب، عن عظام الموتى الراقدين في مقابرهم الجماعية.
هاهي الريح تضرب بلا تكلف، تقتل أحلامنا بعش آمن، تغير فينا، تجعل من أحلامنا سرابا، ومن أمننا خوفا.
يا للركام الذي تخلفه الريح فينا، ركام من صور، خلفتها ذكريات قديمة ومتداعية، تبعث على الحزن فينا، تحيط بنا عيون شفقة، تكسر ما هو صعب كسره فينا، تعصر ما هو صعب عصره فينا، تتركنا هلام أشياء مجوفة، تصدر طنينا يزعج العالم.
بدأت الحكاية حين أحببت. كان شخصا يفوقني طبقة. أحسست حين رأيته زائرا قريتنا يدق الأرض بقدميه ويرتفع على هامته سلاحه اللامع أن هذا من سأعيش العمر كله بجانبه بأمان، وأحسست أنه بعيد بعد الشمس على الرغم من كونه أكثر حرارة منها.
أحسسته ريحا تضرب جوانحي وتكشف ما ظللت العمر كله أستره بلا جدوى من مقاومتي التي كانت أقرب إلى الاستجداء.
عندما عرف والدي بما تكنه جوارحي أفرغ رصاصاته بين قدمي وكأنه يقول: ستدخل رصاصاتي رحمكِ قبل أن يدخل هو!
هل كان رافضا؟ لا وألف لا... فهو يحلم مثلما كنت أنا أحلم ولكنه يعرف أن الحلم بعيد فقرر أن دوي رصاصاته سيرجعني إلى الواقع.
لم أكن لأرغب في أن أرجع إلى الواقع. ففي الحلم قدرة على العيش بأمان داخل عالمي الخاص وفي الواقع هناك دمار وطمع يغلب الأرواح ويقتل جمالها.
كان أشقائي الأشقياء جنودا لدى الحكومة... أتذكرهم أقوياء، فحولا. نظرة واحدة من أي كان كانت تخلق منهم إعصارا يدمر الأجواء.
واندلعت الحرب... وبأسلحتهم وبفحولتهم دحروا العدو أو ذاك الذي قيل إنه عدو.
وماتوا. ذهبوا ثلاثتهم ورجعوا ثلاثتهم إلى التراب. هل أحسست بالحزن؟ نعم، أحسست به... هل أحسست بالحرية؟ نعم، أحسست بها.
كنت أعرف أنه يملك الكثير من الأراضي... كنت أعرف أنه يحرس أراضيه. وفي ليلة تواطأت مع القمر على أن تظلم على العالم وتجعل كل الطرقات مظلمة وصعبة رؤيتها ما عدا طريقي أنا.
وخطوتُ إليه... هل كانت خطوات خيانة لكل من أحب؟ هل كانت خطوات رغبة فيمن أشتهي؟
وحدقت فيه من خلف الصخور. كان لايزال يتحسس جذوع شجراته المحرمة بحنو... كم حسدتها تلك الأشجار. ووقفت في منتصف أرضه رافعة أطرافي كشجرة تنتظر يديه الحانيتين.
كيف سقطت أوراقي حتى أصبحتُ لا أملك ما يستر جذعي المتيبس؟ كيف سقطت ثماري طازجة بين يديه يمضغها بالتذاذ مجنون؟ وكيف رجعتُ إلى موطني الأصلي أحمل بين جوانحي بذراته التي ستنبت في غير موطنها؟
هل كان حلما؟ هل كان حقيقة؟ كنت أكرر الحلم ما استطعت... وكنت أرفد الحقيقة بحقائق متتالية.
هل أنا مخطئة؟ هل أنا مصيبة؟ هذا ما أفكر فيه دائما وأنا أخطو إليه محققة الحلم التالي ورافدة الحقائق السابقة بحقيقة جديدة.
العدد 2120 - الأربعاء 25 يونيو 2008م الموافق 20 جمادى الآخرة 1429هـ