خلال السجالات المستديمة، تمخضت مشروعات سياسية وفكرية كثيرة، وبدأت تتوالد التحالفات والاستقطابات الجديدة، وتبرز التناقضات في تشخيص الواقع وطرق معالجته، وبدأت القوى الاستعمارية تمارس مكرها وكيدها ودسائسها لتوجيه هذه السجالات ومِن ورائها إرادة التغيير في اتجاه يخدم مصالح المستعمر، ويثبت حقائقه السياسية والعسكرية والثقافية على الأرض العربية والإسلامية.
وبفعل عوامل كثيرة ذاتية وموضوعية، طرح شعار الاستقلال القطري، خيارا استراتيجيا بالنسبة إلى الكثير من الأقاليم العربية والإسلامية، وبدأت النخب السياسية والثقافية حشد الجمهور تجاه الهدف الجديد.
وهكذا ولدت الدولة الوطنية في المجال العربي والاسلامي، وهي تحمل مأزقها وأزمتها. فهل الدولة الوطنية هي خيار نهائي، أم هي مقدمة ضرورية للوصول إلى الدولة القومية؟ ووفق أي قواعد تتشكل علاقة هذه الدولة الوطنية مع شقيقاتها؟ وكيف تكون علاقة الجميع بالحلم القومي والأمّة. ومما زاد وهن الدولة العربية على وهنها السابق، أنها لم تتمكن من اكتساب الشرعية الأيديولوجية اللازمة، إذ تتداخل في الوعي والوجدان العربي الإسلامي عموما، حلقات الولاء القطري المحلي والقومي والإسلامي. وعلى رغم كل المحاولات التي بذلت لاستنبات مشروعية تاريخية وأيديولوجية للكيانات القطرية العربية المستجدة من خلال استدعاء الأدبيات القومية الغربية، والنبش في السجلات التاريخية القديمة. ومع ذلك فقد ظل قطاع واسع من الرعايا، ينظر إلى هذه الدول بعين الريبة والشك، ولم ير فيها في أحسن الحالات سوى محطة عبور إلى ما بعدها. وأضحت المشكلة الأساسية التي تواجه الدولة الوطنية في العالم العربي والإسلامي، هي غياب مفهوم الأمّة الشامل عن فضائها ومحيطها السياسي، وعدم قدرتها على تجاوز الثقلين المعنوي والثقافي لمشروع الوحدة القومية أو الإسلامية.
الأمّة أولا
لم يأتِ مفهوم الأمة في المعاجم اللغوية بمعنى واحد، وإنما بمعانٍ متعددة، حتى ذكر ابن الأنباري في كتابه «الزاهر في معاني كلمات الناس» أن الأمة تنقسم في كلام العرب إلى ثمانية أقسام، منها: الجماعة قال تعالى: «ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس…» (القصص: 23)، والزمان قال تعالى: «ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمّة معدودة…» (هود: 8)، والدَّيْن قال تعالى: «وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمّة…» (الزخرف: 23).
وأضافت المعاجم اللغوية الأخرى أيضا معاني وأوصافا أخرى لمفهوم الأمّة، فهي تعني لدى ابن منظور «الطريق والسبيل»، ويُعَرِّفها عبدالقاهر البغدادي بأنها: «كل دار ظهرت فيها دعوة الإسلام من أهله بلا خفير ولا مجير ولا بذل جزية ونفذ فيها حكم المسلمين على أهل الذمة إن كان فيهم ذمي».
كاتب وباحث سعودي*
العدد 2121 - الخميس 26 يونيو 2008م الموافق 21 جمادى الآخرة 1429هـ