العدد 273 - الخميس 05 يونيو 2003م الموافق 04 ربيع الثاني 1424هـ

عبدالحميد المحادين: مسلسل «الهيام بالهداية الخليفية» لايزال مستمرا

القاسم المشترك بين معظم من كتب في شئون التاريخ، أو عالج قضايا تأريخية معينة في البحرين، أنه عرج على موضوع التعليم ببحث مسهب مستفيض، أو بقراءة عجلى... ولهذا دلالة قد تكون واعية أو لا واعية من لدن أولئك الكتاب والباحثين، فالبحرين حظيت بقصب السبق في دخول التعليم النظامي إليها قياسا بالدول المجاورة، كما أنها سطرت عددا غير محدود من الريادات في أكثر من مجال، كان التبكير في دخول التعليم سببا مركزيا فيها. كما أسهم رواد التنوير - التعليم في انطلاق البحرين نحو استشراف آفاق جديدة، بحيث كانت لهم اليد الطولى فيه ولهذا السبب فإن أية معالجة جديدة لموضوع التعليم لاسيما في بداياته وإرهاصاته الأولى محفوفة بكثير من المصاعب، إذا ما أراد صاحب المؤلف أو الدراسة الإتيان بجديد، أو بنقض ونقد القار من المعلومات التي يجري التداول بشأنها وكأنها الحقيقة بعينها. ولهذا السبب فبمراجعة المتون التي أفردت للتعليم حيزا معتبرا أو حتى بمرور سريع عابر، يخال للمرء أن أحاديث البدايات قد تم سبرها بالقدر الكافي، وإن تباينت الاستقراءات، أو اختلف وجهات النظر في بعض التفاصيل لا الأساسيات.

والحديث عن دخول التعليم النظامي في البحرين هو حديث شائق بامتياز، وفي الوقت نفسه قد يلهب المشاعر المتضاربة لكون هذه الريادة، وهذا الوعي المتقادم قد سكن أو مسه شعور الرضا التام، فسبقنا من سبقنا، في حين كنا السباقين والمؤثرين. كما تعد قراءة التاريخ التعليمي بكل ما يحمله من لطائف ومفارقات، كفعل رمي حجر في المياه التي ارتضت السكون، ودعوة لاستنهاض الهمم لإعادة هذا الدور التاريخي إلى حيث كان معقله وموئله.

لقد تمت معالجة التعليم معالجات وافية - كما أسلفنا - لكن الجهود التي كرست لسبره الوقت والجهد، والأهم الاجتهاد يمكننا الإشارة إلى بعضها ممثلا في بحث المرحوم مبارك الخاطر الذي أولى الموضوع قدرا غير يسير من الفحص والتأمل سواء في مؤلفاته المتفرقة التي سلطت الأضواء على الجيل المؤسس لحركة التنوير، أو من خلال نشره وقراءته لمضبطة التعليم الأولى. ويصب في الاتجاه نفسه المؤلف الذي وضعته الشيخة مي بنت محمد آل خليفة (1999)، والذي كرسته بالكامل لبحث الارهاصات التعليمية الأولى سواء في ما سبق التعليم النظامي والذي حدد في العام 1919 - وهو تاريخ غير متفق عليه - أو عبر انبثاق التعليم النظامي الذي تأسس بسبب من حركة وعي لافتة في هذه المرحلة المتقدمة من لدن الأهالي. لقد تناولت الشيخة مي أشكالا مختلفة من الإرهاصات الأولى منها مدرسة «جوزة البلوط» التي أتت بها الإرسالية الأميركية، أو مدرسة «الإصلاح المباركة» الفارسية، وصولا إلى التعليم النظامي المحلي.

ويندغم في الإطار عينه الجهد الكبير الذي يبذله عبدالحميد المحادين، والذي يرتبط اسمه بالهداية الخليفة، لا بوصفه أحد مدرسيها سابقا، ولكن بوصفه أحد العاشقين المتيمين بها، وأحد الذين بحثوا بعمق في دور هذه المدرسة في حركية المجتمع، وفي تحريك الوعي، وفي خلق وتمرير منظومة من الأفكار التي أثرت على مجتمعها قاطبة، لاسيما تلك التي عززت الانتماء القومي.

لقد كان المحادين ولايزال أحد القلائل المعنيين ببحث مسألة التعليم بشكل يكاد يكون هما يوميا، حتى وإن سرقت مشاغله اليومية، أو دراساته النقدية بعض وقته، إلا أنه مخلص تماما لهذا الموضوع، الذي وضع فيه سنوات عمره من الاشتغال والبحث والتنقيب، وقد كانت فعلا حصيلة هذا البحث الكبير الذي يستحق هذا العناء.

قلنا قبل قليل إن علاقة عشقية من نوع فريد ربطته بالهداية الخليفة التي جاء إليها مدرسا مطلع الستينات الماضية، وظل طيفها بعد أن غادرها يداعب قلمه، فيسطر الكتاب تلو الآخر، حول الهداية ورجالها وأثرها... وتفيدنا سيرته الذاتية بمدى تماسك هذه العلاقة وقوتها، وإن تغيرت الأزمنة، وتبدلت الأحوال، وكانت النتيجة كتاب «رجال وآفاق 1989»، وكتاب «أوراق من دفتر التعليم 1995»، «رجال كانوا هنا 1995»، وهو مؤلف مشترك، وأخيرا «الخروج من العتمة، خمسون عاما لاستشراف الأفق 2003» كل هذه المؤلفات تمحورت عن الهداية، المدرسة التي حفظت أرشيف تطور المجتمع وتبدله من حال إلى حال، المدرسة التي خرجت الآلاف المؤلفة ممن تسنموا أعلى الدرجات، وهي المدرسة التي «أعادت الروح» وأطرتها لتوليد أجيال مؤمنة بوطنها الصغير والكبير سواء بسواء.

وتأكيدا لما مضى من قول، فإن المحادين الذي سكن لفترة صوب تعميق بحثه النقدي وإتمام دراساته العليا، متجها صوب اختبار أدوات سردية آتية من خلفية بنيوية ليطبقها على نصوص الروائي الشهير عبدالرحمن منيف، ومن ثم بفحص كنه العلاقات التي تربط إنسان الرواية الخليجية بزمانه ومكانه، سرعان ما نفض يده من أحاديث المتخيل والتأويل والاحتمال، ليعود إلى معشوقته بكتاب ضخم يقع في 583 صفحة، يعد خلاصة واستخلاصا لتجربته الشخصية في معاصرة هذه المدرسة، ومراقبة أفق تطورها، وقراءة تجليات ماضيها، وأيضا ببث توصيات تعيد ألمعيتها، بوصفها جامعة عربية لا ينبغي لها أن تتخلى عن هذا الدور، وبوصفها قادرة على إثارة حراك واع يتسم بالرقي في مجتمعها.

والناظر إلى هذا المؤلف الفريد سيخرج بنتيجة واحدة بعد إتمامه التطواف في مختلف جنبات هذا الكتاب، وهي أن المحادين قد بذل في هذا الكتاب ما لم يبذله في غيره من جهد، وأن جمل وعبارات التخوف التي ألح عليها في مقدمة كتابه من إمكانية الوقوع في هنات وسقطات ستنقشع سريعا، لعمق الجهد وضخامته من جهة، وللوفرة في المعلومات الموثقة توثيقا دقيقا، ولكونه المتخصص الأول في هذا المجال.

وبطبيعة الحال ليس كل الكتاب مخصصا لإعادة البحث في موضوع مدرسة الهداية - كما جرت العادة في مؤلفاته السابقة - إلا أنه يتناول موضوع التعليم في الهداية وغيرها منذ انبثاق التعليم النظامي وصولا إلى نهاية الستينات، بمدة تقترب كثيرا من نصف القرن من الزمن، من حيث التطور المتسلسل، ومن حيث تعليم البنات، والتعليم الخاص، وغير ذلك من موضوعات، حاشدا لِكمٍّ هائل من الوثائق والرسائل والصور الفوتوغرافية - بعضها منشور للمرة الاولى - التي تبين مختلف جوانب التطوير الذي شهده التعليم النظامي على جميع الأصعدة، إلا أن المحادين لا يبدع إلا حينما يتحدث عن الهداية ورجالها، قياسا بغيرها لشمولية معرفته وعمقها في هذا المجال... إن هذا يسبب شيئا من الإرباك، ولكن للحب أحكامه، وللعشق شروطه، وكما قالوا (الناس فيما تعشق مذاهب!!).

- عبدالحميد المحادين. الخروج من العتمة، خمسون عاما لاستشراف الأفق. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1 ، 2003 ، 583 صفحة

العدد 273 - الخميس 05 يونيو 2003م الموافق 04 ربيع الثاني 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً