من الصعب قراءة تاريخ المعتزلة. فهذه الحركة ولدت مشتتة وتفرعت إلى مدارس واتجاهات تجمعها مبادئ عامة وتفرقها الكثير من الأفكار إلى درجة التضارب. فهناك أساتذة انقلبوا على أفكارهم التأسيسية وقاموا بعد فترة بنقد ما قالوا به. وهناك تلامذة انقلبوا على أساتذتهم وأسسوا مدرسة مستقلة تقول ما لا يقول به الأستاذ المؤسس. وهناك فِرق من المعتزلة أخرجت غيرها من الفرق من دائرة الاعتزال، وكذلك هناك بعض الفرق ادخلت الأصناف الغريبة من الأفكار التي تتعارض مع جوهر الاعتزال. لذلك كان من الصعب على المؤرخين ضبط فرق الاعتزال في دائرة مدرسية واحدة أو ربطها في مجرى زمني محدد، فالحركة عموما عاشت قرابة 120 سنة شهدت خلالها الصعود والهبوط ثم الصعود إلى أن تلاشت بعد أن فقدت مبرر وجودها واستنزفت خصائصها ووظائفها التنويرية، وتحولت إلى مناهج فكرية متضاربة استمرت بالتورية من خلال الاندماج بالمذاهب الإسلامية الرئيسية. فالمعتزلة تاريخيا حركة عامة أقل من مدرسة تتميز بمنهج متماسك وموحد وأقل من مذهب فقهي جامع للأصول والفروع والمعاملات.
وبسبب طبيعة المعتزلة النظرية كان من الصعب عليها الاستمرار بمعزل عن التحولات وبالانقطاع عن الناس، الأمر الذي فرض عليها سلسلة تكيفات أملت عليها أحيانا التدخل في السياسة وأحيانا معارضتها. كذلك خضعت المعتزلة في ظروف كثيرة لتقلبات الزمن وأهواء السلطة. فمرة تكون مع الدولة ومرة ضدها. ومرة تستخدم الدولة لأغراضها الايديولوجية ومرة تستخدمها الدولة لأهدافها السياسية. وحين تسنى لها السيطرة على الدولة (ثلاثة خلفاء في العهد العباسي) اتجهت نحو القمع وظلم الناس وملاحقة العلماء والفقهاء والقضاة، وحين انقلبت السلطة عليها انكفأت على نفسها وتراجعت إلى أن تلاشت في مجرى التاريخ الإسلامي الكبير.
ولم يقتصر الاختلاف على التوقيت (لحظة تأسيس حركة المعتزلة) والأسباب (سياسية أم أقوامية) بل شمل الاختلاف مسألة تتابع شيوخ الفرق وتعارض مقالاتهم.
وحتى لا تضيع بوصلة الاتجاهات يمكن اعتماد الترتيب الذي قال به أحد شيوخ المعتزلة ومؤسس فرقة عرفت باسمه (الكعبية وأحيانا البلخية).
صنف البلخي (أبوالقاسم) أرباب المعتزلة وفق التتابع الزمني والذين اشتهروا بتأليف الكتب، فبدأ بواصل بن عطاء، عمرو بن عبيد، أبوالهذيل، النظام، معمر بن عباد، هشام الغوطي، ابن عمرو، بشر بن المعتمر، ثمامة بن أشرس، والجاحظ.
بعد هؤلاء جاء بشر بن خالد، علي الأسواري، عيسى بن صبيح، جعفر بن حرب، جعفر بن مبشر، قاسم الدمشقي الإسكافي، عيسى بن الهيثم، أبوشعيب الصيرفي، الشحام، الآدمي، أبوزفر محمد بن سويد، أبومجالد، أبوالطيب البلخي، محمد بن علي المكي، أبوالحسين الخياط، الشطوي، محمد بن سعيد بن زنجيه في نيسابور، محمد بن عبدالوهاب المناني البلخي، الحارث الوراق، والصميري.
وبعد هؤلاء جاء عشرات الشيوخ انتسبوا أو نسبوا إلى فكر المعتزلة وتشكلت حولهم حلقات وانشقت عنهم الفرق والمدارس.
وحين اندحرت المعتزلة وتراجعت من فرقة سياسية إلى حركة ثقافية (ايديولوجية) اخترقت المذاهب الإسلامية من دون أن تنجح في التحول بنفسها إلى مذهب مستقل. فالمعتزلة التي تطورت من فرقة كلامية إلى حركة سياسية ومدارس فلسفية تفرقت تاريخيا إلى مجموعات ثقافية وتيار ايديولوجي قال به بعض قضاة ورجال المذاهب الإسلامية من دون أن تقوى على مدارس الفقه التي أسست فلسفاتها الخاصة وأصلت قواعدها المنهجية متجاوزة بذلك آراء المعتزلة ومدارسها في فترة فقدت فرقها وظيفتها التاريخية واضمحلت تدريجيا لتتلاشى وتغيب عن المشهد التاريخي الإسلامي
العدد 273 - الخميس 05 يونيو 2003م الموافق 04 ربيع الثاني 1424هـ