إذا كان أولادكِ قد كبروا وانتقلوا للعيش في مكان آخر فلعلهم أخذوا جزءا منكِ معهم. عفوا، ليس كما تفكرين. فالظاهر أنه حتى بعد عشرات السنوات من الحمل والوضع يمكن أن تكون هناك خلايا في دم أو أنسجة الأم جاءت من أطفالها خلال مرحلة حملهم.
وفي المقابل يبدو أن بعض البالغين لايزالون يحملون خلايا كهذه التقطوها من أمهاتهم خلال وجودهم في الرحم.
وكما جاء في مقال افتتاحي في إحدى المجلات المعنية بأمراض الطفولة: إذن، تعتقد أن أمك تتطلع على الدوام وراء كتفك؟ الارجح أنها موجودة في كتفك؟
والسؤال الكبير الذي يواجه العلماء الآن هو ما إذا كان ايواء مثل هذه الخلايا في الجسم أمرا سيئا أم جيدا، أم أنه لا علاقة له بصحة المرء اطلاقا؟ وثمة أدلة توحي بأن الخلايا المذكورة تهيئ ناقلها للاصابة بواحدة من عدة أنواع من أمراض جهاز المناعة الطبيعية التي يهاجم فيها الجسم أنسجته الخاصة عن طريق الخطأ. غير ان هناك علماء يشتبهون ايضا انها قد تكون نافعة.
والحقيقة أن هذه الخلايا الغريبة لم تتسلل هي بالضبط من الجنين الى الأم أو بالعكس في فترة الحمل، بل إنها متحدرة من خلايا جذرية نقلت نفسها وأسست جذورها ثم باشرت ضخ ذريتها التي عثر عليها بعد عشرات السنين.
والنتيجة هي وجود جرعات متناهية الصغر من الخلايا الغريبة لدى الكبار. فعلى سبيل المثال عثرت احدى الدراسات على 61 خلية دم جنينية في كل ملعقة كبيرة من دم مأخوذ من نساء. وهذا أقل من واحد في المليون، بحسب لي نلسون، وهي من العلماء البارزين في ميدان دراسة هذه الظاهرة.
ويقول خبير الأمراض المناعية في مركز فرد هاتشينسون لأبحاث السرطان في جامعة واشنطن في سياتل نلسون إن وجود جرعة صغيرة من الخلايا الجنينية تابعة لحمل حدث منذ عشرات السنين «أمر شائع جدا». بالتأكيد لدى الأفراد الاصحاء والغالبية الكبرى من النساء اللواتي سبق لهن وأن حملن - حتى اولئك اللواتي اجهضن - يحملن على الارجح خلايا جنينية قابلة للاكتشاف.
وبالنسبة إلى الاشخاص البالغين الذين يحملون خلايا من أمهاتهم، تقول لي ان دراسة حديثة عثرت على مثل تلك الخلايا في مجاري دم حوالي 25 في المئة من النساء اللواتي تم فحصهن، وهي تعتقد أن النسب ستكون أكبر عندما تجرى دراسات أكثر كثافة، بل تعتقد ان وجود الخلايا ليس - على الاقل - نادرا ولعل كل واحد يحمل مستويات متدنية منها.
وتدعى ظاهرة الخلايا الغريبة «Microchimerism». والعلماء الذين يستعملون أدوات وراثية لاكتشاف مثل هذه الخلايا كثيرا ما يعثرون عليها لدى اشخاص مرضى واصحاء على حد سواء.
وقد عثر فريق ابحاث على خلايا ذكورية في دم نساء بعد 27 سنة من وضعهن صبيانا. ومن ناحية أخرى عثرت نلسون وزملاؤها على أشخاص بالغين يحملون خلايا دم من أمهاتهم.
وطبيعي أن النساء اللواتي سبق لهن أن حملن يمكن أن يكون لديهن خلايا من امهاتهن ومن اطفالهن على حد سواء. وقد تأكد ذلك عندما اكتشف علماء ان امرأة متوفاة في الاربعينات من سنها لديها خلايا من طفليها اللذين وضعتهما قبل ست وثماني سنوات، وخلايا أخرى من والدتها. وقد عثر على خلايا من النوعين في رئة المرأة وقلبها وطحالها وامعائها وكبدها. وقد ظهرت فقط خلايا جنينية في الكلية اليمني والمبيض، فيما ظهرت خلايا والدتها فقط في نقي الدم.
وكانت المرأة مصابة بمرض scleroderma (جفاف الجلد)، وهو مرض مناعي مزمن له جملة من الاعراض التي تشمل آلام العضلات والمفاصل وتكثف البشرة ومشكلات في الجهاز الهضمي والحساسية المفرطة للبرد ومشكلات أخرى. وتجري حاليا دراسة دقيقة على المرض المذكور لمعرفة ما اذا كان له علاقة بالخلايا الغريبة. ويعتقد ان 300 ألف أميركي مصابون بالمرض المذكور الذي يظهر بين سن الخامسة والعشرين والخامسة والخمسين.
مطلق شرارة هذا المرض غير معروف إلا ان هجوم جهاز المناعة الذاتية يمكن ان يمتد الى البشرة والرئتين والامعاء والكلى والقلب والاعضاء الداخلية الاخرى، وكذلك الأوعية الدموية والعضلات والمفاصل. ويمكن أن يصبح مرضا فتاكا.
وقالت كارول أرتليت من جامعة توماس جيفرسن في فيلادلفيا انه عثر على خلايا جنينية في مواقع الهجوم المناعي للمصابين بمرض السكليروديرما وهي موجودة هناك في المراحل المبكرة من الاصابة بالمرض كما يبدو.
وأضافت أرتليت: «إن حقيقة كون انها موجودة هناك في مرحلة مبكرة أمر مستفز. ولكننا لا نعرف من كان هناك أولا، الخلايا أم المرض». وربما ان الخلايا الغريبة التي تتضمن خليا تي التابعة لجهاز المناعة انجذبت نحو الموقع بعد ان باشر شيء آخر، قد يكون فيروسا أو مادة سامة، الهجوم.
ومع انه ليس هناك أي دليل قاطع يربط الخلايا الغريبة بالسكليروديرما، تقول أرتليت ان الابحاث وفرت تلميحات كافية لجعلها تشتبه بوجود علاقة ما.
وقال رئيس الهيئة الاستشارية الطبية لمؤسسة السكليروديرما جون فارغا، إنه لم يعثر بعد على أي دليل مقنع بأن الخلايا الغريبة تسبب المرض. إلا أن الابحاث الحالية بشأن احتمال وجود صلة جارية على قدم وساق. وإذا كانت الخلايا الغريبة تسهم فعلا في الاصابة بأمراض الجهاز المناعي، فمن الطبيعي ان الابحاث ستقود إلى تطوير معالجة جديدة. ولكن كيف يمكن لكمية ضئيلة نسبيا من الخلايا الغريبة ان تسبب مشكلات كبيرة؟
نظرية نلسون تقول ان مجرد ايواء تلك الخلايا الغريبة ليس هو المشكلة، لانها تشاهد كثيرا عند اشخاص اصحاء. وتعتقد نلسون ان المشكلة ربما تنشأ عندما يكون هناك عدم تجانس وراثي طفيف بين الخلايا الغريبة والجسم الذي تعيش فيه. وتبدو المشكلة كامنة في ما يدعى جينات HLA وهي الجينات التي يبحث عنها الاطباء لاجراء المطابقة عندما يستعدون لاجراء عملية زرع اعضاء.
وتعتقد نلسون أنه عندما يكون هناك عدم تطابق طفيف جدا يتقلبها جهاز المناعة كخلايا عادية، تماما على غرار قبول الكمبيوتر من دون دراية الفيروسات الى شبكاتها الداخلية.
وتنشأ المشكلة عندما يواجه الشخص شيئا ما يطلق شرارة السكليروديرما، ولا أحد يعرف ما هي تلك الشرارة، ولكن ربما تكون فيروسا بيولوجيا أو أحد السموم. وعند هذه النقطة قد تعطل الخلايا الغريبة الاتصالات الحساسة بين خلايا جهاز المناعة، ما يفتح الباب أمام شن هجوم عنيف ضد الجراثيم من دون إلحاق الضرر بالجسم. وقد يؤدي ذلك العطل الى شن هجمات مضللة على الانسجة الصحيحة مثلما يحدث في اصابات السكليروديرما.
ولكن هل تقدم الخلايا أية فائدة ايضا؟ تشير نلسون إلى أن النساء المصابات بالتهاب المفاصل الروماتيزمي غالبا ما يختفي مرضهن خلال فترة الحمل، لا سيما إذا كان لأجنتهن منظمومة مختلفة لجينات HLA. كما ان عملية الوضع بحد ذاتها تحد من احتمالات اصابة المرأة بالتهاب المفاصل الروماتيزمي، وتساءل نلسون ما إذا كانت الخلايا الهاربة من الجنين مسئولة عن ذلك.
شيء واحد عن الخلايا الغريبة واضح بالنسبة إلى نلسون: إنها لا تشكل سببا لتوجيه لائحة الاصابة بمرض لأحد. وهي لا تقول: هذه ليست مسألة لوم. هناك خلايا شاردة ناتجة عن الحمل.
بل العكس هو الصحيح كما ذكرت جوديث هول في محاضرة ألقتها في معهد الطب في جامعة كولومبيا البريطانية، إذ قالت ان امرأة شابة جاءت اليها لاحقا برد فعل غير اعتيادي قائلة: «توفيت والدتي قبل خمسة أشهر وعانيت كثيرا قبل ان اعتاد على عدم وجودها. والآن، هي هنا».
وتقول هول: كان الأمر مؤثرا جدا. كان الأمر (وجود خلايا والدتها في جسمها) شيئا عظيما بالنسبة اليها.
(خدمة أ. ب
العدد 292 - الثلثاء 24 يونيو 2003م الموافق 23 ربيع الثاني 1424هـ