ليس من السهل أن تنصت إلى نبرات صوت ضحايا التعذيب الشجي... فكم من الطاقة تحتاج لتخنق تأثرك ولتحبس دموعك عندما يحدثونك عن ذكريات زنزانة... وقضبان حديد... وذل سلاسل... إنه لمن المؤثر أن نستنطقهم ليعبروا عن صنوف المعاناة القاسية وألوانها وأساليبها لتكون عبرة ولنأمل بالمستقبل.
«الوسط» التقت ببعض معتقلي التسعينات وتحدثت إليهم وشُحنت القاعة بسرد لحظات الاعتقال المرعبة... لحظات يكون فيها المعتقَل معصَّب العينين ليستقبل كل شيء دون رحمة... هكذا ايامهم تلك التي وصفوها لـ «الوسط» بأنها «انقضت تلك الأيام إلا أن آثار الجروح لم تنقض بعد، فمازال الجلد مُلونا ومازالت المفاصل مُهشمة، ومازالت الآثار النفسية من اكتئاب وإحباط وتقوقع على الذات - مازالت كل تلك الآثار - منقوشة في الضلوع قبل النفوس، ولازال الضحايا يشعرون بأن حقوقهم منقوصة».
من معتقل إلى معتقل
عقيل مطر جُرجر من سجن الى آخر زار معتقلات لأربع مرات متتالية، حيث يُعتقل ويُفرج عنه، ويُعتقل ويُفرج عنه وهكذا دواليك. ويقول مطر عن الاعتقال الأول خرجت من المدرسة مع اصحابي (كان عمره حينها 16 سنة) وسرنا قليلا وإذا بسيارة (جيب) تقف أمامنا ونزلت القوات منها بصورة مُخيفة وسريعة وعلى مرأى الناس، أخذونا إلى جانب (الجيب) ووضعوا أيدينا للخلف، وعصبوا أعيننا، وما هي الا دقائق حتى وصلنا المركز، ولم نكن نرى النور واذا باللكمات من كل ناحية وكأنهم اصطادوا فريستهم ولا أستطيع أن أصف مدى الخوف في ذلك السن الصغير. بعد ذلك نزعوا العصابات من أعيننا وعرفنا أننا في احد مركز وهو مركز معروف بسمعته السيئة»...
سألته عن الموقف الذي لا يستطيع أن ينساه فأجاب: «كان لنا صديق في نفس القضية ... أخذوه من الزنزانة بعد التحقيق وعرَّوه من ثيابه أمام كل الشرطة الموجودين في المركز، وللعلم فكلنا قد تمت تعريتنا ولم يبق علينا أي شيء يغطي عورتنا...».
زنزانة الإيدز المرعبة
ويكمل مطر حديثه الحزين بقوله «ذات مرة أخذونا إلى التحقيقات الجنائية وأدخلونا الزنزانات وكان من حظي أنا وأحد الاصدقاء أن الزنزانة التي كانت من نصيبنا هي زنزانة الإيدز!! وكان رقمها 14، تصوروا هذا التعذيب النفسي فقد كانوا يضعونك بين أصحاب المخدرات بل وقيل لنا انهم مصابون بمرض الإيدز!! ومن الممنوع أن يوضع في هذه الزنزانة غير المصابين بالمرض، ولكن نحن سجناء الرأي لا نستطيع أن نعترض لأن الاعتراض يُقابل بـالفلقة» وعند افراجهم عنه في المرة الأولى تم اعتقاله مُجددا بعد 12 ساعة فقط بحجة ان الافراج جاء نتيجة تشابه في الأسماء، وصُعقت اسرته بنبأ اعتقاله الثاني.
خاتم بين القيود
محمد خاتم صدر حكمه بــالمؤبد، ويقول «لا أدري إن كان حكمي 35 سنة أو 25 ولكني لم أشعر بالحزن حين صدرو الحكم، فقد كنت متوقعا الاعدام». وتحدث خاتم عن صنوف مالاقاها «اجبروني على الوقوف لمدة 19 ساعة إلى أن تكتل الدم في قدمي وانهالوا علي ضربا من كل الجهات، ولا أدري السياط ستستهدف أية منطقة من بدني لانني معصب العينين... اشبعوني ضربا الى درجة انني لا أستطيع أن أستلقي على ظهري ولا استطيع أن أجلس والغريب انه بعد ان قادوني الى المحاكمة دهنوا جسمي ببلسم أزال آثار الضرب وألوانه إلا أن الألم لم يتزحزح». وذكر خاتم انه بقي مُقيدا بالسلاسل لمدة سنة ونصف ومازال يعاني من آثارها ومن أوجاع في المفاصل، فالحديد يُفرز مادة مقرفة (صدأ) ما أدى إلى أضرار وضعه الصحي، ويُواصل «لا يريدون لك أن تصرخ، فقد ألقموني الحذاء عندما كنت أصرخ!! والمُزعج في المعتقل انهم لا يسمحون لك بالذهاب لقضاء الحاجة إلا 3 مرات».
التحقيق والوعيد
نازي كريمي إحدى المعتقلات تقول «لن أتحدث عن معاناتي في المعتقل لاني سبق إن صرَّحت بها في الصحافة» وتضيف باقتضاب «مازلت أعاني من أمراض صحية نتيجة التعذيب وأسرتي تعرضت للضغوطات والتحقيق ...» . واستاءت كريمي من عدم حضور النساء المعتقلات إلى «الوسط» وأرجعت ذلك الى الزوج أولا والمجتمع ثانيا. وتقول «هنالك أساليب وممارسات عنيفة أُرتكبت ضد المرأة
سؤال...
السؤال المشروع الآن... إلى متى سيظل المعذبون يشعرون بالألم متى يتم مدواة جروحهم النفسية قبل الجسمية منها لينتهي الظلام ولنعيش واقعا مشرقا آخر.
السؤال المشروع يتطلب اجوبة، فحل المشكلة يبدأ بالاعتراف بها ومن ثم معالجتها فلسنا اول بلد يعاني مما عانينا منه لاي سبب كان، ولن نخترع وسائل جديدة لا تعرفها الانسانية.
ان الاعتراف بما حصل هو بداية التشخيص الصحيح للعلاج، فلا علاج بدون الحديث عن الماضي مهما كان أليما.
الامم المتحدة التي خصصت يوم 26 يونيو / حزيران من كل عام للاحتفال باليوم العالمي لمناصرة ضحايا التعذيب وجهت الحكومات والناشطين للسماح بالضحايا للتعبير عما حدث لهم ... واعتبرت الامم المتحدة ان هذا هو المطلب الاول لبعث الامل في نفوس من عانوا الكثير. فالتعذيب جريمة ضد الانسانية، والتشريعات الدولية تحرمها ولاتجيزها تحت اي عذر كان. فالانسان انسان لانه ليس حيوان لايعترف بما ومن حوله. الحيوانات تفترس بعضها بعضا، اما الانسان فان لهكرامة غير قابلة للنقاش او المساومة. كرامة الانسان هي المنطلق وهي الغاية ولاتوجد غاية اسمى من كرامة الانسان. فالله سبحانه وتعالى يقول «ولقد كرمنا بني ادم». والتكريم الهي المصدر ومرتبط بفطرة الانسان، واي اعتداء على هذه الكرامة هو اعتداء على الانموس الديني والناموس الانساني.
انطلقنا الى عصر جديد ومرحلة انفتاحية جديدة فماذا عن الذين فقدوا كثيرا وضحوا في سبيل الانفتاح؟ هل ننساهم؟ هل نخرسهم؟ هل نكتفي بالخطابات والبيانات والشعارات السياسية؟ ام نتحرك الى الامام؟
العدد 294 - الخميس 26 يونيو 2003م الموافق 25 ربيع الثاني 1424هـ