تم العثور مصادفة في أرشيف الدولة بمدينة ميونيخ على ملف سري قديم كان يعتقد أنه تعرض للتلف. يدور الملف حول التحقيقات بشأن محاولة اغتيال استهدفت كونراد أدناور الأب والجد الروحي للديمقراطيين المسيحيين في ألمانيا وأول مستشار لحكومة ألمانيا الغربية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة ألمانيا النازية وتقسيمها إلى شطرين شرقي تابع للمعسكر الاشتراكي وغربي تابع للمعسكر الغربي. وتمت هذه المحاولة في 27 مارس/آذار العام 1952 وتشير التحقيقات كافة التي أجريت أن تنظيم «أرغون» الصهيوني الذي كان يقوده الإرهابي مناحيم بيغن كان وراء محاولة اغتيال أدناور لهدف تعطيل المفاوضات بين ألمانيا و«إسرائيل» بشأن تعويضات وقيام علاقات دبلوماسية بين الجانبين. وقد صدر كتاب قبل أيام بشأن هذه القضية للصحافي هينينغ زايتس من مدينة هامبورغ يكشف فيه دور بيغن ورفاقه في ممارسة الإرهاب وفرض الأوروبيين تعتيما إعلاميا وسياسيا على جرائم اليهودية العالمية.
ففي 27 مارس العام 1952 وقع انفجار مساء في مخزن تحت الأرض بمقر رئاسة شرطة مدينة ميونيخ، وأدى الانفجار إلى مقتل خبير المتفجرات كارل رايشرت. وكان وزير الداخلية الاتحادي قد أعلن قبل وقت قصير أن سلطات الأمن الفيدرالية ستتولى التحقيق في العبوة الناسفة التي تم العثور عليها داخل طرد كان مرسلا بالبريد إلى مستشار الحكومة الاتحادية أدناور ما أثار غضب سلطات الأمن البافارية التي كانت ترغب في أن تتولى التحقيقات؛ لأنه تم العثور على العبوة داخل الأراضي البافارية غير أن حجة وزير الداخلية كانت أن المستهدف من محاولة الاغتيال هو المستشار الاتحادي، ولهذا ينبغي أن تتولى أجهزة الأمن العليا التحقيقات للكشف عن الفاعلين، الأمر الذي لم يحصل أبدا.
في اليوم التالي لوقوع الانفجار اجتمعت في ميونيخ لجنة أمنية خاصة برئاسة المفتش الجنائي جوزف أوكسي وعضوية عدد من المفتشين الجنائيين وجهاز أمن الدولة وممثلين عن شرطة بافاريا وشرطة ميونيخ. والهدف: البحث عن رجل يحمل اسم «ماريو ميريللي». فقد قام هذا الرجل بتاريخ 27 مارس بتكليف صبيين التقاهما في محطة القطارات الرئيسية بمدينة ميونيخ، بنقل الطرد إلى مكتب البريد والبرق والهاتف في منطقة شفابينغ، وأعطى كلا منهما ثلاثة ماركات مكافأة. برر الشخص المجهول سبب امتناعه شخصيا عن تسليم الطرد إلى مكتب البريد بأن الوقت داهمه ويتعين عليه اللحاق بموعد مهم. بدلا من أن يتوجه الصبيان إلى مقر البريد سلما الطرد إلى أول شرطي التقياه في الشارع. سرعان ما حامت شكوك الشرطي بما يمكن أن يكون داخل الطرد لأن المرسل إليه هو مستشار الحكومة الألمانية وتم نقل الطرد على الفور إلى مقر رئاسة الشرطة في ميونيخ إذ انفجر لاحقا بين يدي خبير المتفجرات رايشرت وقضى عليه.
أدى انفجار العبوة إلى اتساع التحقيقات في واحدة من أبرز الجرائم التي عرفتها ألمانيا الغربية، وعلى رغم أن هذه الجريمة ظلت على مدى أسبوعين كاملين حديث الصحافة اليومية فإن أحدا في ألمانيا لم يعد يأتي على ذكرها ولأسباب سياسية. فقد أحيطت القضية بكتمان مطبق لاحقا بسبب هوية المجرمين ولأن الألمان لم يرغبوا في الدخول في نزاع مع الإسرائيليين، فقد تم إجبار المحققين على فرض تعتيم على سير التحقيقات بعد شهر على وقوع الحادث.
بعد وقت قصير وقف المحققون أمام معضلة سياسية، فالعبوة الناسفة التي كانت واحدة من أصل ثلاث عبوات كانت ترمي لاغتيال المستشار أدناور، لم تكن عمل شخص معتوه بل محاولة تصفية لأهداف سياسية موجهة ضد رئيس الحكومة الألمانية والهدف الرئيسي من ورائها منع ألمانيا من العودة إلى حظيرة المجتمع الغربي. في اليوم التالي لانفجار العبوة الناسفة ورد مخافر الشرطة البافارية فيض من المعلومات تصف الرجل المجهول «ماريو ميريللي»، وتم إيقاف مجموعة من الأشخاص المشتبه بهم، ولكن المجرم الحقيقي صاحب الاسم المستعار ظل متواريا عن الأنظار وكأن الأرض قامت بابتلاعه. وبدأت بالنسبة الى المفتشين فرنر برايتشوب وبرونو بايرسدورفر حملة إعلامية بلغت ذروتها باستقبال أدناور لهما في بون، ومنحهما ساعتين ذهبيتين ونزهة بسيارة المستشار في العاصمة الألمانية الصغيرة النائمة على ضفاف نهر الراين.
في هذه الأثناء وصلت معلومات إلى وكالتين للأنباء في باريس تشيران إلى مسئولية منظمة المقاومة اليهودية السرية عن محاولة اغتيال أدناور. وجاء في بيان المنظمة الإرهابية اليهودية: قام رفاقنا بتاريخ 27 مارس 1957 بأول عملية على أرض ألمانية، وقامت بإرسال عبوة ناسفة مودعة في صورة كتاب إلى المستشار الدكتور كونراد أدناور، وأضاف مضمون البيان: على العالم أن يعرف أن الشعب اليهودي لن يسمح يوما للشعب الألماني بالعودة إلى حظيرة المجتمع الدولي. وأعلن المجرمون ـ الذين لم يسبق وأن سمع أحد باسم منظمتهم ـ أنهم سيعملون على تنفيذ تفجيرات جديدة.
الهدف الحقيقي وراء قنبلة ميونيخ، هو تعطيل المفاوضات بين ألمانيا الغربية و«إسرائيل» التي كانت قد بدأت في منطقة فاسنر قرب لاهاي بهولندا في شهر مارس العام 1952. كان أدناور يرى أنه من الواجب الأخلاقي أن تقدم بلاده تعويضات الى اليهود ومساعدة الدولة العبرية في الوقوف على قدميها. وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون بحاجة ماسة إلى المال والسلاح لبناء جيش إسرائيلي قوي في مواجهة الجيوش العربية، وكذلك بناء مساكن لإدماج المهاجرين اليهود الذين كانوا يتدفقون بمئات الآلاف على أرض فلسطين. وكانت ذروة طموحات أدناور تحقيق المصالحة مع «إسرائيل» وقيام علاقات دبلوماسية معها. بينما كانت «إسرائيل» تفكر بمليارات الماركات التي ستحصل عليها من ألمانيا التي تحققت على أرضها معجزة اقتصادية، وجد أدناور في عقد اتفاق مع «إسرائيل» فرصة للعودة إلى حضن المجتمع الغربي. وقامت أجهزة الأمن الألمانية بتعطيل رسالتين ملغومتين كانتا في طريقهما إلى مستشارين يشاركان في وضع الاتفاق مع «إسرائيل»، من دون أن تثار ضجة إعلامية.
بتاريخ 2 أبريل/نيسان العام 1952 أبلغ مهاجر من سلوفاكيا القنصل الألماني في مرسيليا بأنه يعرف المجرمين الذين حاولوا اغتيال أدناور، وقال إن ميريللي هو في الحقيقة ياكوف فارشتيج وهو مهاجر من دون هوية يقيم في باريس. لم يرغب المهاجر السلوفاكي بالكشف عن اسمه، ولكن بعد أيام قليلة وردت من باريس معلومات إلى مكتب الجنايات الفيدرالي بأنه قد يكون المجرم رجل يدعي لوتان وهو يهودي يعيش متنقلا بين باريس وتل أبيب، وهو على الأرجح أحد المشاركين في العملية. تبين أن لوتان دخل أراضي ألمانيا أكثر من مرة. ووردت من جانب المخابرات البريطانية معلومات عن رجل أعمال يهودي يقيم في فرانكفورت له صلة بالعملية، وأن المجرم الرئيسي قضى ليلة في مسكنه قبل متابعته السفر إلى ميونيخ وكانت العبوة الناسفة بحوزته.
تمت مداهمة مسكن رجل الأعمال اليهودي في فرانكفورت غير أن الأخير لم يقدم اعترافات، فاضطرت الشرطة الى الإفراج عنه. بتاريخ الخامس من أبريل نشرت الصحيفة اليومية الباريسية «فرانس سوار» تقريرا ذكر أن سوريتي ناسيونال أي أجهزة الأمن الوطنية اعتقلت خمسة إسرائيليين ووجهت إليهم تهمة محاولة اغتيال مستشار الحكومة الألمانية. تم إبعاد أربعة منهم بينما تم احتجاز حرية الخامس بسبب حيازته سلاحا. وذكر التقرير أيضا أن أربعة من الذين اعتقلوا فترة قصيرة في فرنسا ينتمون الى حزب شيروت الذي كان يتزعمه مناحيم بيغن إذ نفى الأخير مسئولية مؤيديه عن العملية. وذكرت الصحيفة أسماء الإسرائيليين الخمسة: جاكوف فارشتيج، هيرمان فيكلر، اسحاق براغر، أليسار شوستاك، وأليسار زوديت.
توجه رئيس المحققين الألمان أوكسي على الفور إلى باريس للاطلاع على سير التحقيقات، ولكن دوائر الأمن الفرنسية أبلغته أنها لا تفكر في إطلاعه على ملف التحقيقات. وحين حصل أوكسي على تقرير فني بشأن نوعية العبوة الناسفة وأن بعض أجزائها من صنع فرنسي تأكدت شكوكه وحصل على الدليل بأنه تم صنع العبوة في فرنسا، وأن الشخص الذي أشرف على العملية هو قائد منظمة أرغون اليهودية الإرهابية في أوروبا جاكوف فارشتيج. تم إغلاق ملف القضية وطلب إتلافه لأن ألمانيا لم تكن ترغب في الدخول في نزاع مع «إسرائيل»
العدد 323 - الجمعة 25 يوليو 2003م الموافق 26 جمادى الأولى 1424هـ