إلى جانب الرصيف شمال البصرة، سجي اثنان من الجنود الأميركيين قتيلين، ضحية تصادم بسيط بين عربتين عسكريتين كما يحدث للكثير من جنود الاحتلال. وحطّت مروحية أباتشي على الأرض لتنقل جثتيهما من حر الصحراء اللاهب، بينما وقفنا وسط الزحام إلى جانب سياراتنا في الحرارة التي تشبه حرارة الأفران، نراقب هذه المأساة المفاجئة والفاجعة.
بعض العراقيين المتجمعين في المكان عبروا عن تعاطفهم مع القتيلين بترديدهم كلمة: «حرام»، التي قالوها ببساطة، ولكن ما إن أقلعت المروحية حتى اقترب منا جندي اميركي. ورفع يده اليسرى وأشار إلى الرجال بالتوجه إلى سياراتهم، بينما وجّه بندقيته إلينا بيده الأخرى. هنا قال شاب عراقي بهدوء: «كيف يجوز أن تعمل مثل هذا لنا؟» وكان على مسافة لا يسمعه منها الاميركي. وأضاف: «اننا لم ندعُـك إلى المجيء إلى هنا، ونحن لسنا في بلدك». وأخذ الغضب يظهر على وجوه العراقيين وهم يتجهون لدخول سياراتهم متذمرين، تماما كأي فلسطيني عندما يواجه جنديا اسرائيليا في حالات مماثلة يضطر معها إلى الإذعان.
وبإمكانك ان تدرك ما يريد البريطانيون هنا في البصرة - والحادث وقع في منطقة عملياتهم - لو استطاعوا أن يقيموا قطعة كبيرة من الصحراء بينهم وبين الأميركيين. وليس من باب الصدفة أن يشيروا الآن إلى المنطقة الواقعة إلى الشمال، المخصصة لألفين من أفراد الجيش البولندي، باعتبارها نطاقا صحيا بين الكتيبة البريطانية الـ 19، وبين كتيبة المشاة الأميركية الثالثة.
ومازالت القوات البريطانية في البصرة، هذا الواقع الغريب وغير المريح، تفلت من التعرض إلى هجمات حرب العصابات النشطة التي يتعرض لها الجنود الاميركيون يوميا حول بغداد. وفي البصرة تسمع لهجات منطقة «لانكاشاير» في وسط الحرارة على نقاط التفتيش. والتجهيزات العسكرية لجنود الاحتلال الأميركي ومناظير الرؤية الليلية والمعاطف العسكرية... لم يكن لها وجود تقريبا هنا. وبدلا من العربات الاميركية التي تطل منها البنادق، تشاهد سيارات اللاندروفر القديمة المألوفةفي الشوارع. وغالبية البريطانيين تعبوا مما سمعوه عن الحساسيات التي من المفترض انهم اكتسبوها في شمال ايرلندا. ولكنهم في البصرة لا يتبنون ببساطة المواقف العدائية ولا السلوكيات المتعجرفة للجنود الأميركيين المحتلين.
إذا متى يمكن أن تصل عدوى حرب العصابات إلى المحتلين في جنوب العراق؟ كانت هناك إشارتان مرتين في الأسبوعين الماضيين إلى ان وقت ذلك قد اقترب. فهناك قنابل على جانب الطرق، قذائف هاون، قيل انها «أدوات تفجير ارتجالية». ولكن هذه القنابل ظهرت اول مرة قبل أسبوعين فحسب، عندما تعرّضت دورية من العربات الاميركية إلى كمين في «خان داري» بالقرب من الفلوجة، قتل فيه جندي اميركي وأصيب آخر. ومنذئذٍ االانفجارات تتوالى: في الموصل، وتكريت والرمادي والفلوجة مرة اخرى، والآن في البصرة. فلا عجب أن يردّد الجنود البريطانيون نصيحة واحدة لكل من يسافر شمالا: «ابتعد عن العربات الأميركية»!
ولو كانت القنبلتان في منطقة البصرة من صنيع ما يسمى بـ «فلول» نظام صدام المروعة التي تستولي هواجسها على الأميركيين، لما أوجب ذلك قلق أحد. ولكن إذا كانت هذه العمليات من صنع جماعات المقاومة الإسلامية المتزايدة في العدد التي تواجه الأميركيين، فان البريطانيين سيكونون اكثر قلقا.
ومن الواضح ان هذا النوع من التفجيرات، الذي يحلّ محل الهجمات السابقة بالكلاشنكوف والقنابل، لا ينتشر بصورة متزامنة في العراق. فيمكن لأحدٍ - ربما ثلاثة أو أربعة رجال - يتنقل عبر البلد ليعلّم رجال العصابات صناعة هذه التجهيزات، وهي الميزة الأهم لرجال حرب العصابات في أي قاموس عسكري: «التعاون».
وعلى رأس كل ذلك، مازال على البريطانيين أن ينهوا الجريمة المنظمة حول البصرة، التي تثير الرعب لدى سكان المدينة التي تقطنها غالبية من الشيعة وتمنع إعادة تأهيل حقول النفط الكبرى حول المدينة.
كما أن إطلاق النار في البصرة ليلا مازال يسمع حتى الآن، ويعزى ذلك إلى محاولات الأهالي إخافة جماعات السراق الذين سمح لهم البريطانيون في الأساس بسرقة البنية التحتية في المدينة. وقد طلب مدير محكمة البصرة القاضي وائل الفاضلي من البريطانيين إقامة نقاط تفتيش متنقلة لجمع الأسلحة - فتفتيش البيوت أمر يثير الاستفزاز هنا - وحذّر عائلات السرّاق من الطرد من المدينة إذا لم تنتهِ السرقات الجماعية. ولكن ذلك غير كافٍ، فما الجدوى من تصيد الأسلحة مادام سعر القنبلة 88 بنسا، وسعر البندقية 35 جنيها، وسعر المسدس عيار 9 مم 133 جنيها.
وقبيلة الغرامشة على سبيل المثال- والبصرة مجتمع قبلي مثل غيرها من مناطق العراق - تفرض مبلغ 90 جنيها لحماية صهاريج النفط والغاز في الشوارع المحيطة بالبصرة. كما انه هناك مركب صغير في الميناء الاسبوع الماضي كتب على مقدمته «هذه السفينة تحت حماية الغرامشة»، وقبل شهر قامت القبيلة باختطاف ابن وابنة تاجر نفط بصري، وأطلقتهما قبل أيام فقط عندما دفع الفدية. كما قتل مسيحيان كانا يبيعان الكحول، أحدهما قتل في سيارته بعد أن تجاهل مرتين التحذيرات من الإسلاميين كما هو واضح.
لكن المشكلة الحقيقية في البصرة هي غياب أي سلطة مدنية. فسلطات الاحتلال الاميركي في بغداد لم تمارس اي سلطة هنا، وكان الجنود البريطانيون يتم استدعاؤهم لتصليح تسرب المجاري وأنابيب المياه. أحد العاملين في المجال الانساني قال: «الاحتلال يبدو كما لو انه عملية ارتجالية. البريطانيون نسبيا أفضل في ذلك. ونحن لا نكاد نرى بداية اي جهد لإعادة الإعمار، ولازالت السلطة المدنية غائبة».
البصرة أشبه ما تكون بالبركان الذي يمشي على حممه البريطانيون والعراقيون بأقدامٍ محترقة. والعراقيون ينتظرون ان يقرّر المحتلون مصيرهم، والبريطانيون ينتظرون بمزيد من القلق ما إذا كان سيحتضنهم الوباء العنيف المنتشر في الشمال قبل أن يتمكنوا من الخروج!
ينشر المقال بالاتفاق مع صحيفة «الاندبندنت» البريطانية
العدد 332 - الأحد 03 أغسطس 2003م الموافق 05 جمادى الآخرة 1424هـ