تباينت ردود الفعل العراقية بشأن ما اعلنه وزير المالية العراقي في دبي من اصلاحات اقتصادية ومالية يتعلق ابرزها بالاستثمارات المباشرة في العراق وتسمح بتملك الاجانب بنسبة مئة في المئة في كل القطاعات باستثناء الموارد الطبيعية أي النفط وبمعاملة الشركات الاجنبية على قدم المساواة مع الشركات المحلية.
وقد غلب على ردود الفعل الامتعاض والاستغراب من قبل رجال الأعمال والكادر الاكاديمي العراقي، في حين تعاملت الصحافة العراقية مع الموضوع اما بالاكتفاء بنقل مقالة الاندبندنت البريطانية عن عرض العراق للبيع أو تحليل (الحدث - القرار) بالسرعة التي تحاكي ذهول المفاجأة. واثار الاعلان رد فعل أولي لدى رجل الشارع العراقي تمحور حول المخاوف من دخول شركات إسرائيلية إلى السوق العراقية واذا كانت ستؤدي هذه الاصلاحات إلى اضافة اعباء على كاهل المواطن العراقي من حيث ارتفاع الخدمات الاساسية المرتبطة بالكهرباء والماء والصحة والتعليم، إلا أن ردود فعل رجال الأعمال الكبار كانت الأكثر سخطا على هذا التوجه مع ان معظمهم قضى الأشهر السابقة ومن خلال الاجتماع مع بول بريمر وسواه من المسئولين في سلطة التحالف وفي مجلس الحكم لدفعهم باتجاه اتخاذ إجراءات تحرر التجارة وترفع عن كاهلها القيود الثقيلة السائدة في التشريعات القانونية التي صاغها نظام صدام المخلوع، لكنهم الآن بدأوا يشعرون بخيانة. ويقول حكيم الحديثي - رجل أعمال «ان القطاع الخاص العراقي صغير ولا يحتمل منافسة غير متكافئة مع شركات عملاقة، ان فتح الابواب على مصراعيها للاستثمار الاجنبي سيؤخر القطاع الخاص العراقي ويخلق احتلالا دائما للاقتصاد العراقي يصعب الفكاك منه مستقبلا».
ويعبر ماجد البحراني عن اعتقاده «ان التعجل في فتح الابواب بشكل كامل وبلا اية قيود، ودون تحديدات امام الاستثمار الاجنبي يعبر عن عدم نضوج، ودوافعها نابعة من الوضع الحالي ورغبة الولايات المتحدة في تخفيف اعباء احتلالها للعراق عبر تأمين الحصول على اسهامات اقتصادية من الحكومة الاجنبية».
ويرى اسامة العاني - استاذ الاقتصاد في الجامعة المستنصرية «ان التوجه الذي عبر عنه هذا الإعلان انما يكشف عن حقيقة توجهات الذين ركبوا موجة الاحتلال للعودة إلى العراق».
وهكذا تتباين الاراء بين الخبراء الاقتصاديين العراقيين انفسهم في تقييم هذا التوجه، وتبرز الهوة واضحة وتعكس طرفي نقيض، لاسيما بين اولئك الذين قدموا يحملون ثقافة الغرب الاقتصادية ولهم اليوم اليد الطولى في استصدار القرارات التي تساير الهوى الاميركي، وهؤلاء الذين بقوا في العراق (انه جانب من الصراع الخافت المتعدد الابعاد بين عراقيي الدياسبورا وعراقيي الداخل). فالخبير الاقتصادي عصام خضير الذي قضى نحو 52 عاما في الولايات المتحدة واوروبا يقول «ان تحرير الاقتصاد والانفتاح هو الحل الوحيد امام العراق للتخلص من الورم السرطاني الذي ألم بالاقتصاد العراقي عبر العقود الماضية، فكانت التوجهات التي أعلن عنها وزير المالية في اجتماعات دبي بالبدء في الجراحة التي لا غنى عنها لازالة هذا الورم».
ويصر وزير الصناعة والمعادن العراقي محمد توفيق على ان العراق ببساطة ليس لديه خيار آخر سوى القيام باجراء سريع كهذا. ففي بلد محتل حيث تفجير السيارات وعمليات اطفاء الحرائق والهجمات على الوحدات الاميركية اصبحت حوادث يومية، يحتاج العراق إلى كسب عنصر جذب قوي كي يتمكن من التنافس مع بلدان المنطقة. واضاف انه مع مشكلات الأمن في العراق لا يكفي ان يكون هذا البلد مالكا لثاني أكبر احتياط نفطي لكسب الاستثمارات ضمن الامد الطارئ القصير. وقال توفيق: «نحن بحاجة إلى الاستثمار الاجنبي. يبلغ معدل البطالة عندنا 06 في المئة. علينا ان نخلق وظائف. كذلك ستساعد اعادة العراقيين إلى سوق العمل على تخفيض مستوى الجريمة في الشوارع ولعلها ستساعد على تخفيف حدة المقاومة للاحتلال عن طريق جلب الفوائد الاقتصادية للشعب، في حين يقول همام الشماع - استاذ الاقتصاد في جامعة بغداد اعادة برمجة الحياة الاقتصادية للبلد كله وعلى هذا النحو يجب ان تكون تدريجية لان الكثير من الأسئلة التي لابد من ايجاد الاجابة عليها مثل الكيفية التي سيتم التعامل بها مع التضخم وتأثيره على الدخل الفردي للمواطن العراقي حين تمتلك مؤسسات خدمية ومفاصل اقتصادية مهمة من قبل مستثمرين اجانب.
ويتابع «ان اية وظيفة يخلقها الاستثمار الاجنبي في المرحلة الحالية لن تكون أكثر من سخرة، فمعظم الايدي العاملة العراقية تفتقر إلى التعامل مع مجتمع المعلوماتية بل ان معظم العراقيين لايزالون يفتقرون إلى التعامل مع الحاسب الآلي وهذا سيعني استبدالهم بموظفين من الخارج وبالاخص من العمالة ذات الاجور الواطئة، اذا البرنامج الاقتصادي الجديد يمكن ان يزيد من حجم التمرد والمرارة التي تؤدي إلى تصعيده، وارتباطا بذلك فإن العراقيين اعتادوا، خلال سنوات المعاناة، على الحصول على مرتبات بسيطة، وسيستغل الاجانب ذلك. وعندما يأتي الاجانب، سترتفع الاسعار فوق قدرات معظم العراقيين. واذا كان شخص ما يدفع 001 دولار شهريا ايجارا لمنزله، فسيأتي اجنبي ويعرض 005 دولار. كيف يمكننا المنافسة بالدينار العراقي».
وترى الخبيرة سلام سيمسم في موضوع خصخصة الاقتصاد العراقي ما يفتح مجالات واسعة امام البلد في الوصول إلى آفاق السوق الدولية، وتوضح ان «الاستثمار هو أفضل ناقل للتكنولوجيا ورأس المال والمعرفة والوظائف الجيدة ويتيح للبلاد الفرصة لبلوغ اقصى درجات الاستفادة من العولمة»، ولكنها تستدرك لتقول «ولكن المهم ان يتم ذلك بموضوعية وخطوات مدروسة لا تزيد في ماسي الأوضاع الحالية التي يعاني منها الانسان العراقي، وتعتقد ان مثل هذه الخطوات ليست مسئولية جهة بعينها بل هي مسئولية جماعية وعلى أعلى المستويات في الدولة ويمكن ان تترك غالبية المفاصل الاساسية إلى حين تنتخب الدولة ويقر الدستور الجديد».
وفي إطار ردود الفعل التي عبرت عنها الصحف العراقية فقد كتب محمد طاهر المفتي في صحيفة «الشراع» يقول: «ان قرار السماح للاجانب بالتملك الصرف في جميع الميادين باستثناء القطاع النفطي هو خطة اميركية بحته وضعت لتجر دول الشركات التي تسعى إلى التملك في العراق لإرسال قوات لحفظ الأمن في العراق». وتابع ان ذلك سيجبر الدول التي رفضت إرسال قوات على إرسال العدد الذي ستحدده واشنطن من أجل الحفاظ على املاكها فيه إذ إن الشركات العالمية وبمجرد تملكها للاستثمار في العراق ستؤثر سلبا على دولها من الناحية السياسية والاقتصادية إذا لم تقم تلك الدول بحماية مصالح شركاتها.
اما صحيفة «المدى» فقد نشرت على صفحتها الأولى موضوعا تحليليا وصفت فيه القرار العراقي بانه مجرد «قفزة واسعة في الهواء» ونقلت عن وزير الزراعة عبدالرزاق رحيمة عبود قوله ان وزارته غير مؤهلة حاليا للدخول في نظام الخصخصة واقتصاد السوق.
في حين نقلت صحيفة «الدستور» عن سامي الزبيدي مطلب رجال الأعمال العراقيين باعتماد موقف دول الخليج العربي التي تمنح المستثمر المحلي امتيازات تفوق ما يمنح للاجنبي.
واعتبر رئيس اتحاد الغرف التجارية العراقية عبود الطفيلي ان الوضع الامني الحالي ستكون له آثار سلبية على جذب المستثمرين الاجانب وهناك الكثير من المعوقات من بينها المواصلات وعدم وجود نظام مصرفي.
بقي ان نقول ان تزايد ردود الفعل الغاضبة على هذا التوجه حمل مجلس الحكم الانتقالي إلى اصدار بيان نفى فيه صفة الرسمية عن تصريحات وزير المالية كامل الكيلاني بشأن الاصلاحات الاقتصادية التي اثارت خوف المستثمرين العراقيين لرفعها كل القيود عن الاستثمارات الاجنبية. وأعلن المجلس انه يعتزم تشكيل لجنة فنية مختصة لتأمين صيغة عملية تضمن حقوق الشعب العراقي، مشيرا إلى أن الجهة المعبرة عن رأي المجلس هو رئيس مجلس الحكم، علما بأن أحمد الجلبي هو حاليا الرئيس الدوري للمجلس
العدد 386 - الجمعة 26 سبتمبر 2003م الموافق 30 رجب 1424هـ