العدد 386 - الجمعة 26 سبتمبر 2003م الموافق 30 رجب 1424هـ

المولوخ... فصول من تاريخ اليانكيز

ذكر عبدالوهاب المسيري أن كل أشكال الاستعمار والاستيطان صاحبتها بالضرورة بروبجندا إعلامية، أسبغت على هذا الفعل هالة قدسية، إذ أصبح فعل التنكيل، والاغتصاب، والتمثيل، والسحق، والإبادة مجتمعة، وكأنها أوامر من عند الإله، وأن المستعمر بصنوفه وأشكاله كافة، ينفذ المشيئة الإلهية... المسيري رصد هذه الحالات بشكل أساسي في أميركا، وجنوب إفريقيا، وفي الكيان الصهيوني، إذ لاحظ أن هذه الفضاءات الثلاثة على رغم تباعدها الجغرافي الكبير، فإن المصطلحات والعبارات الدينية نفسها كان المستعمر يرددها، ويقيم الصلوات الصاخبة في المرتفعات لشكر الله.

ويندغم في سياق إضفاء الشرعية المستمدة من تصورات ميثولوجية ما يقترحه الألماني كارلهاينتس دشنر في كتابه المترجم إلى العربية حديثا «المولوخ إله الشر، تاريخ الولايات المتحدة» إذ تتبع مدى فجاجة الفعل الاستيطاني، الذي أباد السكان الأصليين حين يسوغ أفعاله بالانصياع للأوامر الإلهية، وتنفيذها بحرفية وحرفية.

كتاب المولوخ يصدر في طبعته العربية بعد مرور أكثر من عقد على صدوره بلغته الأم، وبعد أكثر من عشر طبعات شهدتها الطبعة الألمانية. وهو كتاب ضخم فيه ملاحقة للنقاط السوداء التي شابت التاريخ الاميركي منذ وطئت أقدام القراصنة الأوروبيين الذين تسلحوا بالبنادق وبالأوامر المقدسة تلك المنطقة النائية من العالم وقتذاك، وحتى حكاية أسامة بن لادن وتنظيم «القاعدة» بحسب قول المؤلف في تقديمه الذي خص به الطبعة العربية، إذ يذهب المؤلف في تحليله النهائي إلى أن ما يجري اليوم هو انعكاس، ونتيجة طبيعية للحصاد الاميركي طوال تاريخها المعبأ حتى الطفح بكل الدسائس، والتدخلات، والانقلابات، منذ الآباء المؤسسين، إلى الأبناء المؤصلين، وحتى الأحفاد الذين يسيرون على النهج نفسه، من محترفي التدخل، وانتهاك حقوق الإنسان، وإبادة الملايين من البشر قديما، وحديثا - والموضوع المنشور في الصفحة اليوم عن الرئيس التشيلي المنتخب يروي أحد الفصول الصغيرة من كتاب كبير مشبع بدماء الضحايا.

يعد كتاب دشنر «المولوخ» سجلا هائلا للعبث الذي مارسته أمريكا على مدار تاريخها، منذ تقنينها لمسألة الهنود في مراسيم ومواثيق تجيز، بل وتشجع على تفريغ القارة من سكانها بوصفهم شياطين، أو متخلفين يعوقون التقدم الحضاري، أو همج، أو حتى كفار وثنيين، وصولا إلى عصرنا الحالي، إذ يتتبع المؤلف ما يزيد على أكثر من 002 تدخل عسكري في مختلف قارات العالم اضطلعت بها أميركا خلال نصف قرن فحسب، من دون أن تكون هذه التدخلات جراء تفويض من المنظمة المعنية. وهكذا يقدم المؤلف الألماني نموذجا تفسيريا، انطلاقا من الوقائع التاريخية في تسلسلها وتطورها طوال قرنين، ليفسر أن ما يحدث اليوم حدث من ذي قبل مرات ومرات، لذلك فهو يستطيع تفهم أية ردات فعل، من باب أن الجزاء من جنس العمل، وهو ما لم يستطع توماس فريدمان التوصل إليه في برنامجه الذي بثته الفضائيات بمناسبة الذكرى الثانية لاعتداءات سبتمبر/أيلول، على رغم أخذه جولة طويلة وعريضة في الأقطار العربية.

لقد جعل دشنر التاريخ الاميركي تاريخا للأشرار نسبة إلى المولوخ، إله الأشرار الذي يطلب على الدوام القرابين، وكأن المؤرخ يريد إلى يحيلنا رأسا من خلال هذه الاستعارة إلى الخطاب السياسي الاميركي المعاصر، الذي يأخذ من المعجم الديني الشيء الكثير، ويؤطر الخير والطهر في الأفعال القدسية التي يضطلع بها القادة الاميركيون، وأن ما يقومون به هو بهدف إزاحة الهوان والحيف الذي أصاب البشرية، وأن القيم الاميركية هي الخلاص، بوصفها حارسة للعدالة... وما دونها يقع في دائرة الشر، أو في محاوره، وأفقه.

إن المثير في هذا الكتاب أن التاريخ الاميركي سلسلة متصلة لم تشهد انقطاعا، أو تحولا، أو ظهور إبستيمات جديدة - بحسب ميشيل فوكو - قد تتغير بعض المفردات، أو بعض العبارات التي يسبكها كُتّاب الخطابات، ولكن منذ إشهار الاستقلال الاميركي في القرن الثامن عشر، تناوب مختلف الرؤساء على حشو خطاباتهم بالأسطرة المثالية، وبنفس نبوي لا تخطئه عين، فهم رعاة الحق، وهم المخلصون، والمنقذون، هذا من جهة، وكانت الأفعال ولا تزال تناقض منطوقهم الذي لهجوا به، فكانت المسألة إما معنا، أو نسومكم سوء العذاب تماما كما فعل آل كابوني في فيلم الأب الروحي، إذ لا يوجد خيار ثالث، أو طريق آخر... وأوراق الضغط هي نفسها، ومستندات التدخل حلقة دائرية تتدحرج لتعبر البلدان، والأزمنة مختلفة، ويظل الحال كما هو عليه: تهديد للآخرين، وتدخل في شئونهم بنبل، مع مكياج يتألف من أمارات التدين والتقوى، عن طريق تحركات رجالات المخابرات، بهدف تجفيف منابع الإرهاب، وإحلال قيم الحرية محلها، ولا بأس باستنزاف مصادر الطاقة، والسيطرة على طرق الحرير الجديدة.

ويعمل الكتاب بشكل أساسي على إبراز مدى تلازم ثنائية القمع والقتل والنهب والتدخل والإقصاء والتحضر في كل التدخلات والإبادات، وفي كل أعمال السلب والنهب، ويكمل الضلع الثاني التدين، والمنطقة الرقيقة التي تفصل ما بين الخط المائل نهب/تدين هي منطقة النفاق والرياء، فقد أورد المؤلف أن ثالث الرؤساء كان يلهج بتحرير الرقيق، وبقيم الحرية والمساواة، ويحتفظ لنفسه في مزارعه بمئتي عبد من السخرة يرفلون في الأصفاد البشعة. وقس على ذلك من دعوة للسلام هنا، وتقتيل في الوقت نفسه هناك... وهكذا حلقات، متصلة ببعضها البعض، كلها تروم الأفعال التوسعية، والنهب، والمصادرات، فهو تاريخ دموي بامتياز في كل مفصل من مفاصله، ولكنهم بشهادة التاريخ كانوا أكثر ذكاء وحنكة، فلم يورطوا أنفسهم كثيرا في استعمار مباشر، وبالتالي كانت الاستحقاقات الملقاة على عاتقهم أقل بكثير ممن تورطوا في هذا النوع من السيطرة بشكل مباشر. ومثال توحيد الولايات خير مثال على استيعابهم درس من سبقهم، فقد استشفوا العبر، ولكن بعد أن تلوثت أياديهم بدماء ملايين الهنود، فعمدوا إلى استراتيجيات ذكية ابتزوا من خلالها منافسيهم في الأراضي، وشركاءهم في التاريخ والجغرافيا عن طريق المال كاستثمارات أو قروض، أو بالتضييق، عن طريق الحظر الاقتصادي، وهي حكاية قديمة جدا، كانت في أحد فصولها القريبة منا زمانا فكرة «الحصار المزدوج».

إن الحلم الأميركي كما يتمحور حوله التاريخ والكتاب لهج به الرئيس ليندون جونسون حين قال: إن الهدف السامي هو خلق مجمع عالمي للبشر، خال من الجوع والمرض والبؤس، الكل فيه يحتفظ بكرامته، ولا نزال حتى يومنا هذا نسمع ترددات عنيفة لمقولات اليانكيز هذه، ولا يضير هذا السعي القرصنة والسلب والنهب.

العدد 386 - الجمعة 26 سبتمبر 2003م الموافق 30 رجب 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً