في سياق ابحاري على الانترنت اصطدمت سفينتي بموقع، أو بالأحرى بمقال وجدته مناسبا لتسليط الأضواء على تجربة نسائية ناجحة في مجال المال والأعمال وتستحق التوقف عندها من أجل الاستفادة منها. زمان التجربة عقد التسعينات من القرن الماضي ومكانها الريف الهندي إذ اضطرت السيدة سيمانتي ليمبراو قبل عقدين من ترك منزل زوجها لتبحث عن عمل تتقاضى من ورائه ما لا يتجاوز 4 دولارات أميركية في اليوم.
تروي قصة سيمانتي التي بلغت الستين اليوم مبادرة قامت بها هي مع مجموعة من السيدات الهنديات اللواتي أسسن ويدرن الآن مصرف مان ديشي ماهيلا ساهاكاري (مصرف مان العقاري النسائي). وهو مصرف فريد من نوعه، إذ تديره مجموعة من النساء وتقتصر الخدمات التي يوفرها والتسهيلات التي يقدمها على النساء فقط.
افتقار هؤلاء النسوة للتعليم الرسمي لم يقف عقبة أمام إدارة نظام مصرفي للتسليف يقدم خدمات تلبي حاجة المرأة في منطقة فشلت المصارف الوطنية العملاقة في رؤية أية قيمة مالية لها، ومن ثم ما يغريها بممارسة أي من أنشطتها المصرفية في نطاقها. وفي خضم انغماس هؤلاء النسوة في تسيير شئون بنكهن المميز، انعكس ذلك اجتماعيا وماليا عليهن بشكل إيجابي، مما أدى إلى تغيير نمط الحياة التي يعشنها في القرية وتعزير مواقفهن في شئون البلاد على الصعد التعليمية والسياسية والاقتصادية كافة، وهو ما أجبر المصارف الكبرى على خطب ودهن لقبول التعاون والتنسيق.
جواز سفر العبور نحو مستقبل أفضل
اليوم تتقاضى السيدة سومانتي 15 دولارا في اليوم إلى جانب دخل إضافي يربو على 003 دولار كأجر إضافي للعمل خلال عطل نهاية الأسبوع. يضاف إلى ذلك قدرتها على الحصول على تسهيلات مالية وقروض متنوعة من البنك النسائي أباحت لها بناء منزل جديد وفتح محل تجاري مستقل تملكه بمفردها وتديره لوحدها. وعلى رغم أنها تعاني من الأمية لكنها تستعين ببصمة إبهامها لتسيير أمورها التجارية والمصرفية. وتحولت سومانتي إلى أسطورة تتناقل قصتها الألسنة مئات المرات.
أسس المصرف النسائي العقاري مجموعة من النساء الأميات بعد معركة ضارية خضنها ضد النظام المصرفي الهندي إلى أن نجحن في استصدار رخصة البنك من بنك الاحتياط الهندي (أعلى سلطة لتنظيم العمل المصرفي في الهند). ومنذ تأسيسه، نما المصرف النسائي العقاري من رأس مال وضعته المساهمات لا يتجاوز 006,21 دولار إلى مصرف تبلغ قيمة موجوداته 083,316 دولارا، ويحقق أرباحا سنوية صافية تقارب من 000,2 دولار وهو مبلغ لا يستهان به بالنسبة إلى السوق المالية الريفية في الهند.
المهم في الموضوع أن زبائن المصرف هن من النساء اللواتي ينتجن الخضراوات ومنتجات الألبان ورعي الأغنام والمعز.
وعندما ضرب الجفاف في السبعينات قرى مهاسواد، كانت قرية مان هي الأسوأ حالا في مقاطعة ماهارشترا، فقد كانت حينها من أكثر القرى تضررا من موجة الجفاف تلك التي عصفت بتلك المنطقة والتي وصلت ذروتها في منتصف الثمانينات من القرن الماضي. حينها وصلت إلى تلك القرية شينتا غالا سينها قادمة من العاصمة مومبي مسقط رأسها.
كانت مهاسواد قبل تلك الموجة قرية مزدهرة تشتهر بصناعة النسيج اليدوي ومزارع القطن. لكن الجفاف الذي استمر ما يربو على عشر سنوات حول أهلها إلى رعاة أغنام وعمال أجرة يومية.
وتضاعف عدد الرجال المهاجرين من القرية حتى بلغت موجات الهجرة أرقاما مخيفة. اضطر الرجال حينها ترك القرية بحثا عن أعمال بأجرة يومية في مزارع قصب السكر في المناطق التي لم يضربها الجفاف أو في صناعة الإنشاءات في مومبي العاصمة.
وكانت النساء هن الأكثر تضررا كما تقول سينها، إذ كان عليهن رعاية الأطفال وشئون الأسرة الأخرى، ومستفيدة من خبرتها السياسية، ومن مسقط رأسها مومبي بادرت سينها إلى التصدي إلى المشكلات الملحة المباشرة مثل نقص المياه، والقضايا ذات العلاقة بالأجور، إلى جانب انغماسها في مشروعات الإنقاذ الحكومية التي انبثقت حينها. فقامت بتأسيس مان سامجيك سانسثا (منظمة مان للإعمال الخيرية) في العام 2991. واستخدمت تلك المنظمة لتدشين جمعية تعاونية للتسهيلات، وأطلقت - بشكل مواز - مشروعا يخاطب النسوة المهمشات في المجتمع. استجابت النسوة حينها لتلك الدعوة وقمن بإيداع مدخراتهن الأسبوعية وانطلقن كمجموعة إلى سوق القرية التي تقام أسبوعيا. واشترين معزة. وتتحدث سينها عن تلك التجربة فتقول «لقد بدأنا المشروع بالحد الأدنى للمشاركة بمبلغ 01 دولارات لكن المردود كان ممتازا إذ بلغت الأرباح حوالي 001 في المئة.
وانخرطت النساء المهمشات الأميات في الأعمال والتجارة. وانبثقت عن الجمعية الأم جمعيات فرعية أخرى عرفن باسم مجموعات الاعتماد على الذات، تضم كل واحدة منها 02 امرأة كحد ادنى. واتسع نطاق عمل هذه الجمعيات فلم تعد انشطتها محصورة في تقديم التسهيلات المالية فحسب بل راحت تشجع النساء على بناء شبكات تعاون فرعية بينهن في السوق تشمل أنشطة أخرى من شأنها فتح آفاق جديدة أمام أعمالهن.
وبوصف كونهن نساء فمن الطبيعي أن خبرة إدارة الشئون المالية لأسرهن أهلتهن لإدراك دورهن القيادي، فما لبثن أن شكلن الاتحاد الخاص بهن.
واليوم انتشرت جمعيات الاعتماد على الذات في 621 قرية في مقاطعة مان. تغطي رقعة سكانية يربو تعداد سكانها على 000,052 إنسان.
وأصبح للاتحاد دور سياسي واقتصادي يؤثر من خلاله على القوى المحركة للسوق، ويشجع ويدعم الأنشطة التي تولد الدخل. وباتت لعضوات الاتحاد كلمتهن في الحياة إذ تبوأ بعضهن مناصب قيادية رفيعة.
وبحلول العام 2991 اكتشفت جمعيات الاتحاد تشعب الأنشطة التي يمارسنها، ومن ثم فقد بتن في حاجة إلى خدمات مصرفية. ومما يؤسف له أن المصارف الهندية المؤممة وتلك التي تتبع القطاع الخاص على حد سواء مطوقة بالممنوعات والمحظورات والبيروقراطية التي تقف سدا منيعا أمام احتياجات تلك الجميات النسائية وطلباتها. فهي جميعا تجرد النساء الأميات، وخصوصا عندما يفتقدن إلى موجودات ملموسة، من الحقوق التي يمكن أن تجيز لهن الاستفادة من خدمات تلك البنوك. فما بالك إذا أضيف إلى كل ذلك المعاملات الورقية التي لا يرقى إليها مستوى واقع تلك النسوة الأميات.
وفي كل الأحوال أدركت سينها أنه لن يوجد هناك مصرف يمكن أن يثير شهيته قرض شراء معزة أو مشروع اقتناء مظلة حديقة منزلية وفي بلد مثل الهند، لكن كلا الأمرين في غاية الأهمية للنساء في تلك المناطق.
ما كان من سينها إلا أن توجهت نحو بنك الاحتياط الهندي من أجل منحها رخصة تأسيس بنك للسيدات. وكما توقعت فقد جاء جواب البنك سلبيا وصارما.
ولادة نمط جديد للادخار
حينها أصرت سينها على المضي في المشروع وشدت العزم على خوض تجربة جديدة. كان منطقها في ذلك في غاية البساطة: طالما دأبت المرأة على مزاولة دور المدير المالي في المنزل، فما الذي يحول دون نجاحها في إدارة مصرف؟
وبعد سنتين من الجهود والمثابرة والإصرار، استسلم بنك الاحتياط الهندي واصبح مشروع مصرف مان العقاري النسائي حقيقة واقعة ملموسة. وتعود سينها إلى الوراء قليلا فتقول «كل ما تحتاج إليه إقناع مجموعة مؤسسين كي يتفقوا على وضع رأس مال متواضع. لم نكن في حاجة إلى ما يعرف برقم من 6 أعداد. حتى الفقراء في وسعهم الوصول إلى ذلك وتحسين ظروف حياتهم دون الحاجة إلى تدخل من الخارج. لقد بدأنا العمل بــ 005 امرأة وضعت كل واحدة منهن ما يعادل 005 روبية هندية لنجمع رأس مال يربو على 000,006 روبية (662,21 دولارا).
لكن تستدرك تفاؤلها المتزايد فتقول «ان تأسيس مصرف ليست مهمة سهلة ولقد أدركت ذلك عندما بدأت أواجه السلوك الحضاري للادخار بين هؤلاء النسوة اللواتي كن في أمس الحاجة إلى تغيير سلوكهن لكن من خلال التفاعل مع عاداتهن التي راكموها عبر الأجيال. ولكي يتحول المصرف النسائي العقاري إلى مؤسسة رابحة، وإلى ان النقود التي أصبحت بحوزة النساء هي للإدخار وليس للإنفاق، كان الأمر يتطلب جهودا مكثفة للوصول إلى الفهم المطلوب».
وتختتم سينها حديثها بالقول: كان من الضرورة بمكان بذر مفهوم نظام الادخار والتخطيط للمستقبل في أذهان النسوة اللواتي شكلن أعمدة المجتمع الجديد.
عندما تستعرض تجربة هؤلاء النسوة الرائدة بكل المقاييس بما فيها المعيار السياسي لا تملك إلا أن تتساءل أين المرأة العربية وبشكل اكثر تحديدا أين المرأة البحرينية من مثل هذه التجارب.
ولكي لا يساء الفهم عند الإشارة إلى المرأة العربية لا يعني ذلك أن الرجل العربي في وضع أفضل، فكلنا في الهم شرق.
العدد 387 - السبت 27 سبتمبر 2003م الموافق 01 شعبان 1424هـ