من ناحية مبدئية كان جمهور مهرجان «كان» السينمائي موعودا خلال الدورة الأخيرة لهذا المهرجان الفرنسي، بأن يكون أول من يشاهد فيلم «سارابندا»، آخر أعمال المخرج السويدي الكبير انغمار برغمان. ولكن لأسباب لم تتضح تماما أعلن قبل انعقاد المهرجان بأيام، في الربيع الفائت، أن الفيلم لن يعرض «لأنه لم يكتمل من ناحية انجازه التقني بعد». وكان يمكن لهذا الأمر أن يكون مقنعا بالنظر إلى أن برغمان بلغ هذا العام الخامسة والثمانين من عمره وصارت حركته أبطأ، وخصوصا أنه في هذا الفيلم الجديد، يعود إلى الإخراج السينمائي بعد اعتزاله طوال عشرين عاما.
وعلى رغم إعلان مسئولي مهرجان البندقية الإيطالي (أغسطس/ آب - سبتمبر/ أيلول) خلال حضورهم «كان»، فإن من المرجح أن يحصل «البندقية» على فيلم برغمان الذي أعاد خلط الأوراق، وشغل التكهنات ضمن إطار الصراع القائم بين المهرجانات للحصول على الأفلام الجديدة.
ومهما كان الأمر، فمن الواضح أن غياب «سارابندا» عن «كان» شكل ضربة لهذا المهرجان. كذلك فإنه إن عرض في «البندقية» فسيكون ضربة أخرى لـ «كان» تضاف إلى ضربات أخرى تتمثل في أن «البندقية» سيحصل على أفلام لمخرجين كبار لوحظ غيابهم عن «كان».
والمهم في هذا كله، كما يعرف هواة السينما، هو أن «سارابندا» نفسه يشكل حدثا كبيرا وعلى أكثر من صعيد. ففي المقام الأول هناك واقع، ان انغمار برغمان حقق هذا الفيلم بعد عقدين أعلن خلالهما أنه طلق السينما نهائيا وأنه لم يعد يقوى على الوقوف وراء الكاميرا. لم يعنِ ذلك انه اعتزل الفن تماما حتى ولو كان قد اعتكف في جزيرته الأثيرة «فارو» يمضي الجزء الأخير من حياته في هدوء. فهو، في «فارو»، وانطلاقا منها، لا يتوقف عن اخراج أعمال مسرحية مرجحا كفة «زوجته» على كفة «عشيقته» إذ اعتاد أن يجيب حين كان يُسأل عن الفارق بين علاقته بالفن السابع وعلاقته بفن الخشبة: «المسرح زوجتي أما السينما فهي عشيقتي». وكذلك نعرف أن برغمان لم يبتعد، حتى عن السينما نهائيا، إذ انه خلال فترة اعتكافه كتب سيناريوهين حققهما أوغوست بيلي («النوايا الطبية» الذي فاز بسعفة «كان» الذهبية قبل أكثر من عقد) وليف أولمان، ممثلته الأثيرة («غير مخلصة» وعرض بدوره في «كان»).
و«سارابندا» يشكل حدثا أيضا بسبب موضوعه، ذلك أن هذا الفيلم يتناول المصير الذي آل إليه بعد ثلاثين سنة من الطلاق والفرقة، بطلا فيلم سابق لبرغمان هو «مشاهد من الحياة الزوجية»... فهذا الفيلم الذي حققه برغمان في العام 1973 في نسخة تلفزيونية طويلة (6 ساعات) ونسخة سينمائية أقصر، وكان حقق أصلا للتلفزة السويدية، ينتهي بطلاق بطليه (وقام بالدورين ليف أولمان وايرلاند جوزفسون)، وفي «سارابندا» يتخيل برغمان أن هذين الشخصين يلتقيان بعد ثلاثين عاما وقد اضحيا عجوزين، فكيف سيتجابهان؟ وكيف سيرويان لبعضهما ما فعلته الحياة والأيام بهما؟ حتى الآن لا يعرف أحد جوابا عن هذين السؤالين، لكن الكل يترقب ليعرف كيف يعود برغمان نفسه إلى السينما وبأية لغة وبأية ديناميكية.
ذلك ان انغمار برغمان لم يكن شيئا عاديا وطارئا في تاريخ السينما، فهو الذي حقق منذ العام 1949 عددا من أهم الأفلام في تاريخ السينما. ونعرف أن إعلان برغمان في العام 1982، وبعد النجاح الكبير الذي حققه آنذاك فيلمه «الأخير» «فاني وألكسندر»، أثار ضجة كبيرة في عالم السينما وهواتها. وكثيرون فضلوا ألا يصدقوا قائلين ان برغمان اعتاد على ابداء مثل تلك الرغبة لكنه دائما كان يبتعد عن السينما لكي يعود إليها بشكل أقوى. وسادت المراهنات على كم من الزمن سيصمد قبل أن يعود.
والذين كسبوا الرهان هم طبعا الذين راهنوا على عشرين عاما. إذ ما ان حل العام 2002 حتى أعلن في السويد أن المعلم الكبير عائد، وبدأ الحديث عن «سارابندا»... وبدأ الانتظار.
واليوم يبدو أن الانتظار لن يطول كثيرا. أسابيع قليلة إذن ويعرض الفيلم.
وهو يعرض على أية حال ضمن إطار تكريم شامل لبرغمان وسينماه، بمناسبة بلوغه الخامسة والثمانين. والتلفزة السويدية (منتجة «سارابندا» الذي هو أول فيلم لبرغمان يصور بالديجيتال) أعلنت منذ الآن، أنها ستعيد عرض 15 فيلما من أهم الأفلام التي حققها برغمان بين العامين 1949 و1978 (أي من «السجن» وحتى «سوناتا الخريف») مع افتتاح العروض بفيلم «مشاهد من الحياة الزوجية» واختتامها بـ «سارابندا». وكذلك ستبدأ الكثير من عواصم أوروبا بإعادة عرض الكثير من أفلام برغمان، بالمناسبة. وعلى سبيل تتويج ذلك كله، من المتوقع أن يعرض عالميا، في الربيع المقبل، فيلم في ثلاثة أجزاء حققته المخرجة ماري نيريرود عن حياة برغمان وأعماله...
والسؤال القديم - الجديد الآن هو: «سارابندا» هل سيكون الفيلم الذي يشهد بداية عودة برغمان إلى السينما، أم سيكون حقا - كما أعلن هو قبل أسابيع - فيلمه «الأخير» هذه المرة؟
العدد 345 - السبت 16 أغسطس 2003م الموافق 17 جمادى الآخرة 1424هـ