إن أفضل كتاب ظهر في الأسواق عن شتراوس هو كتاب شاديا دروري العام 1988 بعنوان «الافكار السياسية عند ليو شتراوس» وربما يكون سبب تميز هذا الكتاب معرفتها بوجود احساس ان ما من امرأة يمكن ان تكون من اتباع شتراوس. ذلك ان شتراوس قال لا يمكن لامرأة ان تكون فيلسوفا. اما بالنسبة إلى الكثير من الفتيان الاذكياء أو الرجال الاذكياء، فإن هدفهم من قراءة شتراوس هو ان يصبحوا «فلاسفة».
وتقدم شاديا دروري توضيحا لطريقة شتراوس من خلال نقاش جرى بين اثنين من أهم الشتراوسيين هما توماس بانغل، وهاري جافا، نشر على حلقات في مجلة «كليرمونت ريفيو» من خريف العام 1984 وحتى صيف 1985، وتواصل نشره في مجلة «ناشونال ريفيو» في 20 و29 نوفمبر/ تشرين الثاني1985. فقد اشتمل حديث بانغل ضمنيا انه عند سقراط (أي عند شتراوس) ليس للفضيلة الاخلاقية دور عند الرجل الذكي حقا، أو الفيلسوف. فالفضيلة الاخلاقية ليس لها وجود الا في الرأي الشعبي إذ يكون هدفها السيطرة على غالبية الناس غير الاذكياء. ومع تواصل هذا الجدال العنيف قال بانغل ان شتراوس قد وصف تميز أميركا بانها «حديثة» وهذا الوصف عند اتباع شتراوس يعتبر اسوأ كلمات الشتيمة.
من ناحيته وجد هاري جافا «تفسيرات بانغل غريبة كل الغرابة عن فهمه لمعلمه وصديقه لأكثر من ثلاثين عاما»، كما جاء في خلاصة قدمتها شاديا دروري وتضيف «لاحظ جافا ان رؤية شتراوس هذه هي رؤية نيتشة نفسه، ويشجب ما قاله بانغل لانه حرف ارث ليو شتراوس (دروري 1988، ص 182).
كيف حصل هذا التناقض؟ كما تقول دروري... «ان اشتراوس علم طلابه من امثال جافا وبانغل اشياء مختلفة»، فهذا التعليم الذي يقتصر على فئة قليلة، أو لنقل فيه ان يكون سرا، قد غرس في اذهان بانغل وبلوم وفرنر دانهاوزر وكثيرين غيرهم (ومنهم كما يقال، بول وولفويتز، ربيب بلوم)، وهذه تعاليم نيتشة البحتة. وواقع الأمر ان تلك النسخة التي عرضها بانغل في مناقشته للعام 1984 - 1985، والتي اثارت غضب جافا كانت مخففة كثيرا. من نيتشة وحتى ليو شتراوس لم يتغير شيء سوى الاسماء، كما يقولون. في بادئ الأمر نقول ما كان يسميه نيتشة «الرجل الخارق» (السوبرمان) أو «الرجل التالي» يدعوه شتراوس «الفيلسوف».
وهذا الفيلسوف/ الرجل الخارق هو ذلك الرجل الذي يندر مثيله بين الرجال ويستطيع ان يواجه الحقيقة. وهي ان الكون لا يهتم البتة بالبشر أو الجنس البشري، أو ان تاريخ البشرية كله ليس أكثر من مجرد نقطة تافهة في هذا الكون الواسع والتي ما ان تبدأ بالظهور حتى تتلاشى ابدا دون ان تترك اثرا. لا توجد اخلاق. لا يوجد خير وشر. وبالطبع لا يوجد شيء اسمه الحياة الآخرة فهذه مجرد قصة من قصص العجائز.
قال شتراوس ذات يوم وهو يؤبن زميلا له: «اعتقد انه مات فيلسوفا، دون خوف، ودون أمل أيضا»، غير ان الغالبية العظمى من الرجال والنساء، من جهة أخرى، بعيدون كل البعد عن كونهم يملكون القدرة على مواجهة الحقيقة، فهذه القدرة تخص جنسا آخر غير الجنس البشري. وهذه الغالبية هي التي يسميها نيتشة «القطيع» ويدعوهم أيضا «العبيد». فهؤلاء بحاجة إلى رجال مخيفين. ومن دون هذه الاوهام يصاب الناس بالجنون وتعم فيهم حوادث الشغب وينهار النظام الاجتماعي، أي نظام اجتماعي. وإذ ان الطبيعة البشرية لا تتغير كما يقول شتراوس، فهذا الوضع سيستمر على أي حال.
والرجال المتفوقون/ الفلاسفة هم الذين يقدمون للقطيع كل ما يحتاجه من معتقدات وأخلاقيات وغيرها على رغم انهم يعرفون في قرارة انفسهم ان هذه المعتقدات كلها اكاذيب. يقول نيتشة ان هؤلاء الرجال المتفوقون «كهنة ملحدون» اما شتراوس فيدعي ان اكاذيبهم هي «اكاذيب نبيلة» وبالطبع فهم لا يفعلون ذلك حبا في الخير، ذلك ان نيتشة وشتراوس يهزأون بالمحبة وحب الخير للجميع ويصفون هذه الافعال بانها غير جديرة بل ان هؤلاء «الفلاسفة» يستخدمون هذه الاكاذيب ليصنعوا مجتمعا وفق مصالح هؤلاء «الفلاسفة» انفسهم.
والفلاسفة بحاجة لاصناف مختلفة من البشر لتخدمهم، ومنهم «السادة»، تلك الكلمة التي ادهشني استخدامها سابقا، عندما استخدمها «بلوم» في حديثه عن محاكمة سقراط. وبدلا من: «تعليم داخلي يقتصر على فئة معينة» أو التعليم السري، يتلقى هؤلاء «السادة» تدريبا عقائديا في التعليم «الخارجي للجمهور» أو التعليم العام. فمنهم من يدربون على الايمان بالدين والاخلاق وحب الوطن والخدمات العامة، وبعضهم يدخلون في الحكومة. لنأخذ مثلا على ذلك وزير التربية السابق ويليام بينيت وكتابه بعنوان «كتاب الفضائل». وبالطبع فهم يؤمنون، إلى جانب كل تلك الفضائل التقليدية «بالفلاسفة» الذين علموهم كل تلك الاشياء الخيرة.
وهؤلاء «السادة» الذين يصبحون ساسة ورجال دولة، يستمرون بتلقي النصح من الفلاسفة. وحكم الفلاسفة من خلال رجالهم الذين دخلوا في الحكم هو ما يسميه شتراوس «المملكة السرية» للفلاسفة. والمملكة السرية هي الهدف الذي يسعى كثيرون من تلامذة شتراوس «الداخليين» لتحقيقه في حياتهم.
تلك الخصائص الغريبة التي وجدتها في كتاب «بلوم»، كما وجدتها في الندوة التي ذكرتها عن افلاطون لم يكن سببها فقط اثر تعاليم نيتشة في شتراوس وبلوم، بل وأيضا اصرار شتراوس على وجوب اخفاء الحقيقة، وهذا ما لم يشارك فيه نيتشة بهذه الصيغة.
ولأن الحقيقة ان عرفت قد تدمر المجتمع والفلاسفة على حد سواء قال شتراوس ان افلاطون والفلاسفة القدامى، مثلهم في ذلك مثل شتراوس نفسه، كتبوا بنوع من الرموز لا يتكشف معناها الحقيقي الا للحكماء. واذا تصادف واطلع الغوغاء على هذه الكتب فلا يجدون فيها الا الخرافات المألوفة عن الثواب للفضيلة والعقاب للرذيلة وما شابه ذلك.
ويقدم شتراوس مثالا يأخذه من الفارابي وهو شخص آخر من المؤلفين «الذين يتحدثون للفئة القليلة» بحسب رأي شتراوس، يوضح كيف ان المرء قد يقول الحقيقة بكلمات معينة تكون غايتها الخداع فقط. وفي مختصر دروري لهذه الرواية (المنقولة عن الفارابي) تقول عداوة حاكم المدينة له فأمر باعتقاله، واتخذ كافة الإجراءات الكفيلة بعدم فراره من المدينة. واستنفر جميع الحراس على ابواب المدينة. وعلى رغم ذلك كله استطاع هذا الناسك ان يهرب من المدينة، فقد ارتدى ملابس السكيرين وسار مغنيا وهو يضرب على الصنج واقترب من ابواب المدينة. ولما سأله الحراس من هو اجاب انه الناسك المتعبد الذي يبحث عنه كل من في المدينة، لم يصدق الحراس قوله، فسمحوا له بالخروج».
لا عجب اذا ان «الان بلوم» الذي ظننت وغيري اننا رأيناه عبر صفحات كتابه «اغلاق العقل الأميركي» لم يكن الان بلوم الحقيقي. ويمكنك ان تأخذ فكرة أكثر صدقا عن معتقداته الحقيقية من خلال بعض المقتطفات المأخوذة من «مقالته التفسيرية» لجمهورية افلاطون الآتية، وحقيقة الأمر ان الان بلوم كان أيضا من بين جملة اشياء رجلا ماجنا وكان مرض الايدز سببا في وفاته. وعندما احس بدنو أجله، كلف صديقه المقرب، الروائي في جامعة شيكاغو، صول بيلو (Saul Bellow)، بكتابة ما أصبح يعرف بـ «الذكرى الادبية» لأن الان بلوم، التي كانت بعنوان «رافلشتاين» (Ravelstein) وهي القصة الحقيقية لواقع حياته. ربما يبرر بيلو اضطراره لطمس بعض الحقائق عن نفسه بسبب ضرورة ابراز صديقه بلوم. فيما عدا ذلك، بدل الاسماء فقط وبعض التفاصيل الصغيرة. فبلوم هو «رافلشتاين» وشتراوس هو «دافار» (الكلمة العبرية للفظة «الكلمة») وبيلو نفسه هو chick أو chicli.
لقد حقق كتاب «اغلاق العقل الأميركي» ثروة هائلة، وجعل من بلوم مليونيرا وحوله من استاذ في الجامعة إلى رجل ذي ميل للترف لكن دون ان يقدر على ذلك. وأموال حق النشر التي جاءت من اليابان وحدها قدرت بالملايين. يبدأ كتاب بيلو بحفل عشاء كثير البذخ استمر طوال الليل دعا إليه بلوم نفسه نحوا من أربعة وعشرين شخصا كان بيلو بينهم، واقيم في فندق «كريون» في باريس الذي يعتبره بلوم أفضل الفنادق. ويستيقظ بلوم وبيلو عند الساعة الثانية من اليوم التالي ويذهبان معا للتسوق في محلات باريس الباهظة الأسعار، وينتقيان معطفا أصفر اللون لبلوم بلغ ثمنه 5000 دولار. ثم يذهبان إلى مقهى ومصادفة تندلق القهوة من يد بلوم العصبي المزاج على ذاك المعطف الثمين الجديد. يشتد ضيق بيلو لذلك، ويحاول طمأنة بلوم ان النادل في الفندق يعرف كيف يصلح أمر المعطف. الا ان بلوم يضحك ويبدو انه لا يستطيع السيطرة على ضحكه.
وفي شقته في شيكاغو، استعاض بلوم عن جهاز الهاتف المعتاد بلوحة مقسم هاتف صنعت خصيصا له. وكان يقضي معظم وقته جالسا وسط هذه الشبكة العنكبوتية يتلقى الاتصالات الهاتفية التي بواسطتها يستطيع ان يبقي عددا من المتصلين على الانتظار بينما هو يتحدث مع آخرين في مؤتمرات هاتفية تدور عن مناقشات اعدت مسبقا أو انها ظهرت لتوها. توفي بلوم العام 1992، وربما كان من اوائل الاشخاص الذين حملوا ما يشبه حاليا الهاتف الخليوي، وذلك بهدف ان يلتقط مكالماته الهاتفية في أي مكان يكون فيه.
تصف لنا حادثة معينة اتصالا هاتفيا جاءه من وولفويتز في واشنطن تلقاه بلوم على ذلك الجهاز الجديد، ابان حرب الخليج العام 1991. فقد اعلمه وولفويتز ان البيت البيض سيعلن في اليوم التالي انهم لن يتابعوا تقدمهم نحو بغداد. فوصفهم بلوم بالجبناء.
وما كان يفعله بلوم تركز عن مناقشة الأمور السياسية وتدبر الحياة العملية لمساعديه والتحدث عن حياتهم الغرامية والحياة الغرامية للآخرين، وترتيب الزيجات. والواقع انه كان السبب في انهيار زواج صول بيلو الحالي، عندما وجد له مساعدة مدرس في الآداب، وكانت من طلاب بلوم، أغرمت ببيلو وتزوجته.
لا تنس ان شتراوس خرج مئة من حملة درجة الدكتوراه. كما خرج بلوم عددا كبيرا من هؤلاء وهؤلاء أيضا خرجوا الآخرين. والآن تخرج الجيل الرابع. ولكل واحد منهم دور يقوم به سواء كانوا من المتحدثين مع القلة أم من المتحدثين من العامة، «فلاسفة» أو «سادة» أو منشقين مهما كانت التسمية. ونذكر أيضا وظيفة في الجامعة تتطلب ما يقرب من عشر إلى عشرين توصية ايجابية غير متحفظة يقدم
العدد 349 - الأربعاء 20 أغسطس 2003م الموافق 21 جمادى الآخرة 1424هـ