أصدرت شركة بوز أند كومباني دراسة شهرية، الذي خصصتها لإصلاح أنظمة التقاعد في مجلس التعاون لدول الخليج العربية. وقالت الشركة في الدراسة، مما لا شكّ فيه أنّ أنظمة التقاعد في مجلس التعاون الخليجي سخيّة جدا. فالعاملون في المنطقة يتقاعدون في سنّ مبكرة ويتقاضون معاشات تقاعد مرتفعة. وتؤدّي أنظمة التقاعد في المنطقة، على مستوى توفير الرفاه الاجتماعي، دورها على أكمل وجه. إلا أنّ التركيز على الرفاه الاجتماعي يتعارض مع ابتعاد دول المنطقة عن نموذج «دولة الرفاه»، ونحو نموذج قائم على التعددية الاقتصادية وازدهار القطاع الخاص. ووجدت الدراسة أنّ أنظمة التقاعد الحالية تفتقد إلى الاستقرار وغير قابلة للاستدامة، وأن نجاح عملية إصلاح هذه الأنظمة يرتكز على تحوّيل المسئولية تدريجيا نحو العاملين المشتركين في أنظمة التقاعد ومديري صناديق الاستثمار الخاصة، ما يساهم في تنمية الأسواق المالية في دول مجلس التعاون الخليجي ويقلّص الدور الحكومي في هذا المجال.
وتؤمّن أنظمة التقاعد عموما، ثلاثة مزايا رئيسية. فمن الناحية الاجتماعية، تسمح للمتقاعدين بالمحافظة على مستوى الاستهلاك الذي اعتادوه قبل التقاعد، أو على الأقل تشكّل شبكة أمان تحميهم من الفقر. ومن الناحية المالية، تقوم أنظمة التقاعد على الالتزامات الطويلة الأمد واستثمارات طويلة الأمد، الذي من شأنه تخفيف تقلّب الأسواق المالية وتعزيز أسواق رأس المال. أما من الناحية الاقتصادية، فإنها تعطي الناس حافزا للعمل، فتعزّز سوق العمل وتجعل الدولة أكثر تنافسية.
وعلى رغم استدامة أنظمة التقاعد حاليا، مع مساهمة 25 موظفا في صناديق التقاعد مقابل متقاعد واحد يسحب معاشه التقاعدي من الصندوق، ستتغيّر هذه المعادلة بحلول العام 2050، لتبلغ نسبة 3 موظفين مقابل المتقاعد الواحد في بعض الدول. في هذا الإطار.
وأشارت الدراسة، إلى أن خطط التقاعد التي تعتمدها دول مجلس التعاون الخليجي سخية وتعتمد على حسابات مرتفعة لمعاش التقاعد، تشمل عادة 1 إلى 3 سنوات من آخر الحياة المهنية للعامل. وتميل معدّلات استبدال الرواتب في التقاعد إلى أن تكون مرتفعة - بحيث يبلغ معدّلها في بعض الدول 80 في المئة من الراتب قبل التقاعد، كما يتوافّر هذا المعدّل للأشخاص البالغين الذين لا يزيد عمرهم على 40 سنة في العديد من الدول.
إنّ المعدلات التراكمية في دول مجلس التعاون الخليجي - أي نِّسَب تراكم معاشات التقاعد سنويا (accrual rate) - مستقرة وثابتة بغضّ النظر عن مستوى الراتب، الأمر الذي يؤدّي إلى معدّلات استبدال ثابتة.
وتتوافّر في سوق العمل الخليجية حوافز كبيرة للتقاعد في سنّ مبكرة عوضا عن الاستمرار بالعمل: فيتقاعد 9 من أصل 10 ذكور في سنّ 60 عاما، مقابل 1 من أصل 10 في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD).
ويشكّل استحداث وسائل ادّخار للمساعدة في تعزيز الأسواق المالية في المنطقة مسألة أخرى مطروحة للإصلاح. إلى ذلك، لا تشجّع الهوامش المرتفعة في المصارف على الادّخار، كما لا ينتشر التأمين على الحياة في دول مجلس التعاون الخليجي. كما أن النقص في الخبرة الاستثمارية المتقدّمة وارتفاع معدّل الاستهلاك (اذ تضع دراسة حديثة إمارة أبوظبي بين المدن التي تتمتع بأعلى مستويات الاستهلاك في العالم) يسلّطان الضوء على تردّد العاملين في التخلّي عن منطق الاعتماد على «دولة الرفاه».
ويشكّل إدخال اليد العاملة المُنتِجة الأجنبية في أنظمة التقاعد فرصة تحسين واضحة، وسيما أن ثلاثة أرباع الموظّفين في دول مجلس التعاون الخليجي من الأجانب. في الإمارات العربية المتحدة والكويت مثلا، ترتفع نسبة العاملين الأجانب أكثر، لتبلغ 83 في المئة و82 في المئة على التوالي.
ما تحتاجه أنظمة التقاعد في دول مجلس التعاون الخليجي ستدفع مواطن الضعف هذه في دول مجلس التعاون الخليجي في نهاية المطاف إلى إصلاح أنظمة التقاعد التي تعتمدها. لكن من المنطقيّ بدء إصلاحات التقاعد اليوم، وسيّما أن الضغوط الديموغرافية مازالت أقلّ حدّة ويمكن للتغييرات أن تحقق أهدافها.
ويشكّل فتح أنظمة التقاعد أمام العاملين الأجانب (ضمن شروط معينة) وأصحاب المهن الحرّة من أهم الإصلاحات الممكن العمل عليها اليوم. أما ثاني أهم الإصلاحات فيكمن في الحد من دور الحكومة في إدارة أنظمة التقاعد والاهتمام بالعاملين عند تقاعدهم. أما الإصلاح الرئيسي الثالث فهو إدخال عنصر الادّخار التقاعدي الطوعي، لكي يتمتع العاملون بخيار يسمح لهم بادّخار الأموال فوق المستوى المخصص لهم. أما الإصلاح الرابع فيكمن في جعل حسابات التقاعد للعاملين قابلة للنقل، بحيث لا يواجه العاملون احتمال خسارة حسابات التقاعد الخاصة بهم في حال غيّروا وظيفتهم أو تركوا الدولة المقيمين فيها.
تحتاج منطقة الخليج إلى نموذج إصلاح فريد قائم على إنشاء المستويات الثلاثة بحسب ما تقتضيه أفضل الممارسات العالمية، ولكن ضمن مظلة الصناديق العامة التي تتولّى الحكومة إدارتها أصلا. وفي المرحلة الأولى يجب أن تتولى الحكومات إدارة المستويات الثلاثة، مع وضع خطة واضحة لتسليم المستوى الثاني إلى الشركات الخاصة عند جهوزيتها، وتسليم المستوى الثالث مع نشوء شركات خدمات مالية قادرة على تولّي الصناديق التي يساهم بها الموظّفون (المستوى 3). ونظرا إلى عدم جهوزية هذه الشركات المالية في معظم دول مجلس التعاون الخليجي، من غير المستحسن أن تتخلى الحكومات عن مسئولية إدارة أنظمة التقاعد، على الأقل في المدى المنظور.
ويجب أن يندرج موضوع إصلاحات المحددات ضمن عملية التغيير. فقد تحقّق التغييرات في المحددات نجاحا كبيرا في ضمان الاستقرار المالي لمفهوم «الصندوق واحد/ مستويات ثلاثة»، ما يسمح بالابتعاد عن نماذج التمويل الجزئي والانتقال إلى نماذج التمويل الكلّي. ومن شأن إدخال الناحية الطوعية من البرنامج في الصندوق العام المتوافّر أن يحرك المستوى الثالث، ما يساعد العاملين في ادّخار أموال تقاعد «إضافية» في صندوق عام يعرفونه ويثقون به.
العدد 2663 - الأحد 20 ديسمبر 2009م الموافق 03 محرم 1431هـ