تنتاب المثقف الوطني حال اضطراب عصية على الادراك والتأويل ازاء جمودية الوضع العربي بعد تراجع الحراك السياسي/ الثقافي الى منزلة الصفر، تراجع استدعى معه مفردات نكوصية ابانت عن قدرية اجترارية للعقل العربي، وكأن ذلك العقل حكم عليه الارتهان للاشكاليات النهضوية وعيادات التيارات السياسية/ الثقافية.
راهنية المثقف الوطني على استيعاب المشروع الديمقراطي للاستبداد السياسي المتجذر في بنية السلطة السياسية العربية، وتحويله الى نظام ديمقراطي تعددي تنتفي معه الحاجة الى الاستبداد اصطدم بعولمة الاستبداد على الصعيد المؤسسي للدولة المستبدة، إذ ما فتئت الدولة منذ تشكلها الحديث حريصة على توحيد قيم الاستبداد وتعميمه على مؤسساتها العسكرية والتعليمية والاعلامية والثقافية وغير ذلك كمصدر قوة لها يضمن سرمديتها.
وإذ يدرك المثقف الوطني ان المشروع الليبرالي أو الاسلامي أو القومي أو الماركسي قد توفر له حامل اجتماعي ثقافي أو سياسي (الدولة) ابان المرحلة التأسيسية الأولى للدولة القطرية لان جل مبادئ تلك التيارات - في نظر معتنقيها - لا تحمل خصومة للديمقراطية، فان الرهان على فاعلية ذلك الحامل لتبني تيارا معينا يتلاءم مع رؤية المثقف يعد رهانا خاسرا بفعل مؤثرات عولمة الاستبداد الداخلي الذي اساء الى تلك التيارات وقضى على المعاني الرمزية النبيلة الكامنة في جوهرها ولم يكتف بل عمد الى امتصاص مقومات الحامل وجرده من مصادر قوته البنائية، وما اساءة حزب البعث العربي للقومية العربية والتجربة الدينية السودانية للاسلامية ببعيد عن ذلك التصور.
نقل وزراء الداخلية العرب عولمة الاستبداد من اطاره القطري الى اطاره القومي فأصبح المجال الجغرافي العربي معولما استبداديا يطوق الحراك السياسي/ الثقافي حيثما وجد بأجهزة بوليسية احترابية متعطشة للاذلال أصر حاكم احدى الدول العربية الرائدة في المنطقة على نقل ثقافة الاستبداد الى الدول الغربية الديمقراطية حينما دعاها بعد حوادث سبتمبر/أيلول إلى تضييق الخناق على المعارضين له (حتى لو كانوا بريئيين) المقيمين في تلك الدول، بل طردهم أو تسليمهم لدولهم كي تذوقهم حلاوة الاستبداد العربي فهي أكثر دراية بفن التعامل معهم من الدول الغربية، وأبدت بعض الاجهزة الأمنية العربية استعدادا تاما لاعارة الولايات الاميركية خبراتها في كيفية التحقيق الشيطاني مع بعض المتهمين من الجاليات العربية والمسلمة هناك، واعتقد أن الدول العربية لو كانت تملك أجندة سياسية واقتصادية وعسكرية متينة لفرضت عالمها الاستبدادي على الدول الغربية.
ازدادت قناعة المثقف الوطني بامكان اصلاح الوضع السياسي داخليا خصوصا بعد الصورة الممسوخة للديمقراطية الاميركية التي حملها المحافظون الجدد الى العراق فبحث عن القوى الوطنية الفاعلة لتثوير نضال سلمي يفتح نافذة للديمقراطية تعيد رسم خريطة الدولة سياسيا معززا قناعته بالثورة المخملية في جورجيا وبوليفيا، إلا أن قانون التكيف الاستبدادي أبى أن يفتح تلك النافذة، فكما وقفت السيادة العليا (الديمقراطية) الغربية ضد اليمين المتطرف فيها ممثلا في زعيم الجبهة الوطنية في فرنسا جان ماري لوبن، وزعيم الحزب الشعبي في النمسا يورغ هايدر وغيرهما، وقفت السيادة العليا (الاستبداد) العربية ضد المثقف الوطني المتنور، وضد أية مطالب شعبية نادت بالاصلاح لا لسبب إلا كراهية النظام السياسي ومؤسساته الاستبدادية التنازل لعوام الناس كما تصورها مخيلته المريضة.
دفع تجذر بنية الاستبداد في العقلية المجتمعية والمؤسساتية للدولة العربية الى فشل مشروعات التنمية، فلا تنمية سياسية ولا اقتصادية ولا ثقافية في ظل هيمنة الاستبداد، وإذ إن الحاضر هو امتداد للماضي فان المستقبل امتداد للحاضر وستظل الدول العربية تعاني من التقهقر والتخلف مادامت الديمقراطية مؤودة حتى لو استمر ذلك عشرات بل مئات السنين، وليس يعني ذلك أنني متشاؤم ويائس، بل لأني ببساطة مؤمن بأن قدرة الانسان العربي على صنع حاضره ومستقبله تتطلب توافر مناخ من الديمقراطية تتيح له حرية التفكير والعمل على الأصعدة كافة أمام افرازات الاستبداد من تخلف وقهر وتبعية وارهاب عكستها تقارير التنمية الانسانية العربية العامين 2002، 2003م، وتقاير صندوق النقد والبنك الدوليين الاقتصادية، وتقارير المنظمات الانسانية الحقوقية العربية والدولية خفض بعض المثقفين الوطنيين مطالبه الى الحد الأدنى وهي وقف التدهور المريع في الخدمات الاجتماعية، وتصور آخر أن حصوله على ترخيص لتأسيس حزب صغير أو جمعية ثقافية أو صحيفة يعد تحولا نحو الاصلاح الديمقراطي متناسيا المثقف الوطني الكريم أن مشروعية الترخيص مستمدة من حاضن الاستبداد (الحاكم) وليست مستمدة من حاضن الدستور وقوانين السلطات الثالث (الديمقراطية)، لذلك تبقى قوة ذلك الحزب والجمعية والصحيفة وفعاليتها مرهونة بمانح مشروعيتها - وشتان ما بين المشروعيتين -، في حين تلبس مثقف آخر عقيدة الانتظار بمفهومها السلبي، وراح يغرق في الغيبيات منتظرا تحولات احتمالية تعقب وفاة الزعيم العربي، أو عزله وصعود جيل جديد من الزعماء يخفف من وطأة الاستبداد على الأقل واضعا الياته الثقافية في متحف اليأس.
إن التحديات الخطيرة التي تواجه الدولة العربية جراء انسداد الافق السياسي والاقتصادي تحتم تضافر جهود المثقف المناضل مع مختلف القوى الوطنية الحية من دون استثناء لرفع لواء الجهاد الثقافي ضد الاستبداد وما خلفه من اوبئة فتاكة انهكت طاقات الشعوب وسحقت كرامتها، وسلبتها حريتها. وتهيئة الارضية الاجتماعية لتأصيل الديمقراطية ومد ثقافتها لارحب فضاء ممكن من الدولة، وهي إذ تفعل ذلك عليها أن تتذكر أن الشعوب المتحضرة سواء اكانت غربية أم غيرها لم تسقط عليها حقوقها من السماء ولا اتى بها ساحر، بل نالتها نتيجة نضالات مختلفة غدت بموجبها تلك الحقوق في منزلة المقدس بالنسبة إليها. فمتى ياترى نرى ذلك اليوم الذي يفخر فيه المواطن العربي بديمقراطيته التي انجزها كما افتخر بها الآخرون؟ نأمل أن يكون ذلك اليوم قريبا إن شاء الله!
أمين محمد الغافلي
الاحساء - السعودية
العدد 461 - الأربعاء 10 ديسمبر 2003م الموافق 15 شوال 1424هـ