أنا على يقين بأني لست الوحيد الذي شرب من الكأس المرّ الذي يدور بين المراجعين لوزاراتنا حين يقدم لهم على يد الموظفين المستضيفين لهم والذين آلو على أنفسهم إلا أن يسقوها كل من حضر إلا من شذ وندر من يمت لهم بصلة أو بمعرفة لأنهم عرفوا أن تلك الكأس محرمة في شرعهم على أولئك النفر القليل.
وفي قناعتي أن هذا الأمر لم يكن ليجد له طريقا ليمشي في ردهات ومكاتب وزارات المملكة لو أن هناك جهازا للرقابة والنزاهة في تلك الوزارات.
فعلى رغم تكرار التوجيهات من القائمين على حكومتنا الرشيدة بعدم التعامل مع المواطنين بهذا الشكل المشين من التعطيل في إنجاز معاملاتهم، إلا أننا نجد أن المعنيين بذلك الخطاب مصرّين على اعتبار المواطنين المراجعين لتخليص معاملاتهم من فرضت عليهم حال مكررة من نوم أصحاب الكهف، وبالتالي فإنهم كموظفين مكلفين بتخليص تلك المعاملات في سعة من أمرهم حتى يستيقظ أصحابها.
قد يستغرب القارئ الذي لم يتعرض لمثل هذه الضغوط النفسية - وقليل ما هم - لأنه لم تكن له معاملة في وزارات الدولة من مثل ما ابتلى به غالبية المراجعين وأنا منهم، ولكن لكي يصدق مثل هؤلاء القراء اضطررت لأن أسوق لهم أمثلة على ما أقول،وسأكتفي بثلاثة أمثلة فقط لأني على يقين من أنهم سيسمعون من غيري عبارة (نعم ما ساقه صحيح وعلى ذلك فقس)...
وإليكم أمثلتي الثلاثة ولعلها تحرك أجهزة الرقابة -إن وجدت- في تلك الوزارات، هذا إن لم تجد من يبرر للموظفين المتلاعبين بأعصاب البشر تلاعبهم على رغم علمهم بأن العلاج لا يكمن في تغطية الجرح بل في كشفه ومداواته.
وعسى أن تجد هذه الأمثلة وأشباهها قرارا مسئولا يحاسب أولئك الذين جعلوا من توجيهات وقرارات الحكومة حبرا على ورق يحتفظ به في الأرشيف الذي يبقى وراء ظهور أولئك الموظفين لكي لا يجد له إلى التطبيق سبيلا، لأنهم من يصفهم المثل القائل «إذا لم تستح فافعل ما شئت» لقناعتهم بالمثل المصري القائل «الي ختشوا ماتوا».
المثال الأول:من إدارة المساحة بوزارة الإسكان: إذ إن لي معاملة في هذه الإدارة بالتحديد... ألجأتني إليها الضرورة وذلك حين عزمت على تسجيل بيت قديم في إدارة التسجيل العقاري بعد تملكي له من صاحبه السابق (الطرف الأول)، ولأن مقاسات الوثيقة قديمة مسجلة بمقياس الأقدام الإنجليزية أفادني موظف التسجيل بأن هذا التسجيل غير ممكن ما دامت المقاسات في الوثيقة لا توافق المقاسات المعتمدة في البحرين في الوقت الحاضر، لهذا توجب علي أن أتقدم إلى وزارة الإسكان بطلب تحويل تلك المقاسات الإنجليزية بالأقدام إلى المقاييس الفرنسية بالأمتار، فتقدمت بطلبي المذكور إلى الوزارة المعنية وكان ذلك على وجه التحديد في شهر مارس/آذار العام 2008 ، ولكني على رغم مراجعاتي المتكررة ولحد كتابة هذه السطور فإن معاملتي لم تجهز بعد!... فصرت حائرا بين تصديق ما أراه وأسمعه أو تكذيبه، لأني لم أتصور يوما أن مثل هذا التحويل للمقاييس من الأقدام إلى الأمتار يتطلب كل هذه المدة؟ أليس ذلك من التلاعب الذي تجب المحاسبة عليه؟ لا أدري.
المثال الثاني: من لجنة معادلة الشهادات الجامعية: والموضوع هنا يدعو للاستغراب إذ أصبحت معادلة الشهادات للطلبة الجامعيين من حملة البكالوريوس والدراسات العليا ضرورة لا بد منها لكل متخرج سواء منهم المبتعث أو غيره من الطلبة الخريجين ... ولكننا وعلى رغم كل المبررات المقدمة من قبل القائمين على هذا الأمر لا نجد للإجراءات المتبعة بصورتها الحالية مبررا منطقيا لما يشوبها من سلبيات، أهمها ضياع فرص التوظيف على تلك الجموع من حملة المؤهلات العلمية ما يعني حرق أعصابهم وهدر طاقاتهم بدخولهم في دائرة التعطل عن العمل في الجهات التي تناسب تخصصاتهم العلمية والعملية.
فهل يوجد مبرر موضوعي لمعادلة شهادة يحملها المتخرج المبتعث إلى جامعة معروفة ومحددة سلفا للطالب المبتعث، هذا إلى كل ما تحويه تلك الشهادات والاستمارات من أختام التصديق على صدق مضامينها من قبل الجهات المختصة في تلك الجامعات والوزارات ذات الصلة في تلك الدول؟ فما هو المبرر يا ترى إذا كان المتخرج من المبتعثين من قبل الوزارة إلى إحدى الجامعات الخليجية أو العربية الصديقة أو الأجنبية العريقة أو حتى إلى جامعة البحرين نفسها؟
سنجد من يقول بأن معادلة الشهادات أمر ضروري لأنه فيه الضمانة من عدم التزوير، فنقول هل وصلت بنا الحال إلى هذه الدرجة من انعدام الثقة في صدقية منارات العلم وحماته من العلماء الذين نذروا أنفسهم لمحاربة الجهل وأهله؟
وإذا وافقناكم جدلا أن تلك الإجراءات المعتمدة لمعادلة الشهادات من الضرورة بمكان، فلماذا لا تقتصر المعادلة للشهادات الصادرة من جامعات أهلية أو حكومية في بلاد مجهولة الهوية لا تربطنا بها علاقات ثقافية أوسياسية أو أن تقتصر المعادلة على الأقل على الشهادات التي يحملها الطلاب غير المبتعثين؟
ومع التسليم جدلا بأن ما تقدمونه من مبررات مقبولة فما هو المبرر أن تستغرق عملية المعادلة للشهادة وقتا لا يقل عن الثلاثة شهور من حين تسليم الشهادات وما يتبعها من استمارات، الأمر الذي يجعل أولئك الخريجين يعيشون في دوامة الحيرة والقلق الذي يأتي على ما تبقى من فرحة التخرج ويفوت عليهم فرص العمل الشحيحة سواء في القطاع الحكومي أو الخاص.
المثال الثالث:من كواليس وزارة التنمية: كلنا يعرف مشكلة العاطلين الجامعيين، والذين كثر الحديث عنهم ومنهم في المجالس وعلى صفحات الصحف بل في جميع وسائل الإعلام حتى أفزعت الضجة الضاجين وأقلقت المهتمين بشئونهم ووصل الأمر إلى أن تصدر التوصيات من أكبر رجالات البحرين ومسئوليها لإنهاء معاناتهم بتشغيلهم، فاستبشرنا خيرا، وكانت ابنتي من نالها نصيب من أثر تلك التوصيات الرشيدة... فكان أن تم الاتصال بها من قسم شئون الموظفين التابع لوزارة التنمية، وكان ذلك منذ مطلع شهر سبتمبر /أيلول 2008، فقامت بكل ما يلزم من خطوات وإجراءات التوظيف اللازمة من قبيل الفحوصات الطبية والبصمات والاختبار النظري والمقابلة فاجتازت كل ذلك بنجاح ولله الحمد... فعاشت الأمل بأنها سيتم توظيفها بعد تعطل دام سنوات وكان أملها أن يكون ذلك مع نهاية الشهر، وكانت المفاجأة حين رن جرس هاتفها يستدعيها قسم التوظيف لتوقيع العقد قبل نهاية الشهر فكانت فرحتها لا توصف ...
ولكن فات شهر سبتمبر وجاء شهر أكتوبر/تشرين الأول وتقدم ولحقه شهر نوفمبر/تشرين الثاني ومازال هاتف الوزارة أبكم، وتبعه شهر ديسمبر/كانون الأول الأصم وانتهت سنة 2008، ودخلنا في سنة 2009 وهاهو شهر يناير/كانون الثاني بات يتصرّم ومع كل ذلك والتوظيف الموعود لم يبرم...
وكل ما تساءلت المسكينة كان الجواب سنتصل بكم في الوقت القريب وإن غدا لناظره لقريب ولا تدري هي ولا أنا ولا أحد من له في قرابتنا نصيب متى سيحين هذا الوقت الموصوف بأنه قريب والذي لا يعرفه حتى أقرب المقربين في نفس الوزارة المذكورة! فهل من محرك لهذه العجلة المتعطلة؟ من يا ترى سيكون صاحب القرار الحكيم... نحن مازلنا في الانتظار ننتظر ذلك القرار.
هذا ما أردت أن أسطره كأمثلة حية تحكي بعضا ما لا يحصى من نواحي القصور والتقصير واللامبالاة التي تعشعش في وزاراتنا فهل من مراقب مسئول يصدق فعله ما يقول يراعي الله في معاناة الكثير من أبناء هذا البلد الذي ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الناس إلاّ إليه.
عيسى المطوع
العدد 2342 - الإثنين 02 فبراير 2009م الموافق 06 صفر 1430هـ