كنت فكرت، بادئ ذي بدء، أنه من واجبي أن أعلمكم عن سبب بحثي، في هذا الوقت بالذات، في هذا الموضوع: كلاب العرب: مكانهم ومكانتهم، إلا اني ارتأيت أن لا أخبركم بذلك، الآن، لشدة خجلي من الأمر، وخجلي ليس من موضوع البحث في قضايا الكلاب، بل في مسألة القضية التي تسببت في تحفيز شهوة الكتابة في موضوع كلاب العرب بالذات غير كلاب الدنيا قاطبة. بيد أني قررت أنه لربما استطيع لاحقا أن أخبركم في نهاية هذه العجالة، إن طاب لي الأمر، واستشفيت أنه يطيب لكم أيضا. فلذلك أرجو أن يطول بالكم ويتسع صدركم معي حتى أصل بكم ومعكم إلى نهاية هذه العجالة عسى أن يطيب لنا جميعا معرفة السبب في كتابتها. أرجو ألا تتسرعوا وتسرقوا النظر إلى فحوى النهاية. وأرجو ألا يخيب ظنكم إن لم تجدوها. البصير منكم لن يحتاج إلى ذلك.
وليكن معلوما لديكم جميعا منذ البدء أن الشروع في البحث عن كلاب العرب لم يكن نتيجة تعرضي لا سمح الله لهجوم كلب من تلك الكلاب التي تنبح على كل شيء من الإنسان حتى الحيوان، بما فيهم الكلاب التي على شاكلتها ونوعها وأقصد بتلك الكلاب: الكلاب الجشعة المصابة بداء النهمة للعض وأكل لحوم البشر لأني في حقيقة الأمر أتجنب هذا النوع من الكلاب فهي بالنسبة إليّ كلاب قذرة شكلا ومضمونا وهي في الوقت ذاته أنانية ولا يرتجى منها خيرا؛ أو أن البحث في هذا الموضوع جاء نتيجة تعرضها (أي الكلاب) بسوء، أو عض، أو نهش لأحد منكم لا سمح الله، إطلاقا؛ كما أني أعلمكم بأني لم اتعرض لهجوم غير مخيف لكلب من تلك الكلاب المدللة التي عادة ما تحملها النساء قرب أنهادها لتعبث النساء بأناملها في شعرها الممشط وقلائدها الشرائطية الملونة.
ولا كوني وقفت للحظة لأتمعن في الكلاب الضالة التي يتدلى لسانها حتى يقارب الأرض من شدة الجوع والعطش أو على عكس ذلك من شدة الامتلاء والارتواء؛ ولا لكوني ربيت كلبا وجهدت في تربيته كي يعينني على الكلاب الأخرى وهجومها الشرس ومن ثم فقدته وحزنت عليه ولذلك بدأت البحث في موضوعنا هذا؛ ولا لكوني شاهدت فيلم «شقراء قانونيا» والتي تلعب فيه شقراء أميركية دور المدافع عن الكلاب إذ يتظاهر أكثر من مليون كلب أمام البرلمان الأميركي بجناحيه من أجل إنجاح قانون لوقف التجارب «العلمية» على الكلاب. أصدقكم القول لا هذا ولا ذاك. البحث عن كلاب العرب جاء نتيجة للمعان فكرة جاءت ومضاتها مثل البريق الخاطف، سريعة وخاطفة في دهاليز العقل. لكن ما الذي أشعل الفكرة؟ هذا هو السؤال الذي قد أجيب عليه في ختام هذه العجالة إن رأيت وارتأيت وقد قادتني بصيرتي إلى ذلك اشتياقكم للمعرفة.
كما يطيب لي أن أعلن هنا بأني لم ابحث عن «كلاب» تلك القبيلة العربية الأصيلة التي أعجزت العـالم في حينها وجعلت «الرومان» وغيرهم من قوى ذلك الزمان أن يقفوا إجلالا واحتراما لها، لكوني لا أعرف لها في عصرنا الحديث وجودا سوى في بطون الكتب. فقد ذهبت تلك القبيلة وذهب أريجها معها ولم يتبقَ منها سوى ذكرى عطرة في بطون الكتب. إليكم بعض من هذه الذكرى، التعريف بهم أولا:
«كلاب اسمُ رجل، سمي بذلك، ثم غَلَبَ علـى الـحيّ والقبـيلة؛ قال:
وإِنّ كِلابا هذه عَشْرُ أَبْطُنٍ، وأَنتَ بَريءٌ من قَبائِلها العَشْرِ»
(الشطر الثاني للعربي المعاصر)
«وكَلْبٌ وبنُو كَلْبٍ وبنُو أَكْلُبٍ وبنو كَلْبةَ: كلُّها قبائلُ. وكَلْبٌ: حَيٌّ من قُضاعة. وكلابٌ: من قريش، وهو كِلابُ بنُ مُرَّةَ. وكِلابٌ: فـي هَوازِنَ، وهو كِلابُ بن ربـيعةَ بن عامر بن صَعْصَعة. وقولهُم: أَعزُّ من كُلَـيْبِ وائلٍ، هو كُلَـيْبُ بن ربـيعة من بنـي تَغلِبَ بنِ وائلٍ. وأَما وائلٍ. وأَما كُلَـيْبٌ، رَهْطُ جريرٍ الشاعر، فهو كُلَـيْبُ بن يَرْبُوع بن حَنْظَلة».
«وكلاب اسم رجل من أجداد النبـيّ، وهو كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن لـياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. وكلاب إمّا منقول من الـمصدر الذي هو فـي معنى الـمكالبة نـحو كالبت العدو مكالبة وكلابا، وأمّا جمع كلب وسموه بذلك طلبا للكثرة كما سموا سباع وأنمار؛ قـيل لأبـي الدقـيش الأعرابـي: لـم تسمون أبناءكم بشر الأسماء نـحو كلب وذئب وعبـيدكم بأحسنها نـحو مرزوق ورباح؟ فقال: إنّما نسمي أبناءنا لأعدائنا وعبـيدنا لأنفسنا وكأنّهم قصدوا بذلك التفاؤل بمكالبة العدد وقهره، والكلبة أنثى الكلاب وجمعها كلبات ولا تكسر».
هذا بالنسبة إلى تلك القبيلة التي حفرت لها مكانا عميقا في التاريخ العربي، وهنا بعض ما وجدنا عن ضالتنا الكلب الذي عنونا عجلتنا بصيغته الجمعية: كلاب العرب، ونعتذر لبعض الاقتباسات الطويلة نسبيا والتي قصدنا منها المعرفة قبل كل شيء بما فيه إيجاد سند لما نود أن نصل إليه، نبدأ بالتعريف:
«ك ل ب: الكلب ربما وصف به. يقال امرأة كلبة، وجمعه أكلب وكلاب وكليب كعبد وعبيد وهو جمع عزيز. والأكالب جمع أكلب والكلاَّب بتشديد اللام صاحب الكلاب والمكلّب بتشديد اللام وكسرها معلم كلاب الصيد. ورجل كالب أي ذو كلاب كتامر ولابن والمكالبة والتكالب المشارة وهم يتكالبون على كذا أي يتواثبون عليه». (مختار الصحاح ج 1 ص 240 باب كلب)
«كلب: الكَلْبُ الحَيَوَانُ النَّبَّاحُ وَالأُنْثَى كلْبَةٌ وَالجَمْعُ أَكْلُبٌ وكلاَبٌ وقد يقالُ لِلْجَمْعِ كَلِيبٌ، قالَ: «كمثل الكلب» قالَ: «وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد» وعنه اشْتُقَّ الكَلبُ للحرْصِ ومنه يقالُ هو أحْرَصُ من كلْبٍ، ورَجُلٌ كِلبٌ: شَدِيدُ الحِرْصِ، وَكَلْبٌ كَلِبٌ أي مَجْنُونٌ يكْلَبُ بِلُحُومِ الناس فيأخُذُهُ شِبْهُ جُنُونٍ، ومَنْ عَقَرَهُ كُلِبَ أي يأخُذُهُ داءٌ فيقالُ رَجُلٌ كَلِبٌ وَقومٌ كَلْبَى، قال الشاعر: دِمَاءُهُمُ مِنَ الْكَلَبِ الشَّفَاءُ وقد يُصِيبُ الكَلَبُ البَعِيرَ. (...)والكَلاَّبُ وَالمُكَلِّبُ الذي يُعَلِّمُ الكَلْبَ (...) وأرضٌ مَكْلَبَةٌ كثيرَةُ الكِلابِ (...)» (مفردات القرآن الكريم، كتاب الكاف: كاب)
ويذكر أن الكلب «حيوان شديد الرياضة» «كثـير الوفاء» «دائم الجوع» وهو «لا سبع ولا بهيمة حتـى كأنّه من الـخـلق الـمركب لأنّه لو تم له طباع السبعية ما ألف الناس ولو تم له طباع البهيمية ما أكل لـحم الـحيوان، لكن فـي الـحديث إطلاق البهيمة علـيه. دائم السهر ويستطيع التمييز بين «التيس من العنز» «يخرج يوم الثلج» إذ يشتم المواضع ليعرف «مواضع الصيد بأنفاس أبدانها وبخار أجوافها» وينبح حين يبصر «غنما». ويقال إن الصيف يصيبه بالجنون. ولا «يشرب من الماء حتى يهلك من العطش» وإذا نهق بقربه الحمار أو سمع صوته «يتألم رأسه».
والكلب - بالنسبة إلى العرب - نوعان «أهلي وسلوقي» وكلاهما يحتلم مثل الرجال من البشر و«تـحيض إناثه» ومدة حملها «ستـين يوما ومنها ما يقل عن ذلك وتضع جراها عميا فلا تفتـح عيونها إلاّ بعد اثني عشر يوما، والذكور تهيج قبل الإناث وهي تنزو إذا كمل لها سنة وربّما تسفد قبل ذلك، وإذا سفد الكلبة كلاب مختلفة الألوان أدت إلـى كل كلب شبهه» ومشهور له «اقتفاء الأثر وشم الرائحة ما لـيس لغيره من الـحيوانات». ويفضل أكل لحم «الـجيفة» بدل «اللـحم الغريض» ويأكل «العذرة ويرجع فـي قـيئه»، ويحكى أن «بـينه وبـين الضبع عداوة شديدة وذلك أنّه إذا كان فـي مكان عال أو موضع مرتفع ووطئت الضبع ظله فـي القمر رمى بنفسه علـيها مخذولا فتأخذه فتأكله» وإذا «دهن كلب» بشحم الضبع «جن واختلط»، وإذا «حمل الإنسان لسان ضبع لـم تنبح علـيه الكلاب»، ومن خصاله المشهورة «إنّه يحرس ربه ويحمي حرمه شاهدا وغائبا ذاكرا وغافلا نائما ويقظان وهو أيقظ الـحيوان عينا فـي وقت حاجته إلـى النوم، وإنّما غالب نومه نهارا عند الاستغناء عن الحراسة وهو فـي نومه أسمع من فرس وأحذر من عقعق، وإذا نام كسر أجفان عينـيه ولا يطبقها وذلك لـخفة نومه وسبب خفته أنّ دماغه بارد بالنسبة إلـى دماغ الإنسان». (حياة الحيوان الكبرى باب الكاف).س
وله من الطباع طباع عجيبة: «يكرم الـجلة من الناس وأهل الوجاهة» ولا ينبح على أمثالهم، ويقال إنه «ربّما حاد عن طريقه» عنهم، وهو ينبح على «الأسود من الناس والإنسان ذي الثياب الدنسة» وعلى «الضعيف الـحال»، ويحب «البصبصة والترضي والتودد والتألف بحيث إذا دعي بعد الضرب والطرد رجع»، ويعض «ربه إذا لاعبه» (العض الذي لا يؤلـم)، وله من الأضراس «لو أنشبها فـي الـحجر لنشبت»، وهو من الحيوانات التي تقبل «التأديب والتلقـين والتعلـيم حتـى لو وضعت علـى رأسه مسرجة وطرح له مأكول لـم يلتفت إلـيه ما دام علـى تلك الـحالة فإذا أخذت الـمسرجة عن رأسه وثب إلـى مأكوله». ويصاب بأمراض «سوداوية فـي زمن مخصوص» مثل مرض «الكلب» بفتـح اللام وهو مرض يشبه إلى حد ما «الـجنون» ومن علاماته: «تـحمر عيناه وتعلوهما غشاوة» و«تسترخي أذناه» و«يندلع لسانه» و«يكثر لعابه» ويزيد «سيلان أنفه» و«يطأطئ رأسه» و«ينـحدب ظهره» و«يتعوج صلبه» إلـى جانب، و«يدخـل ذنبه بـين رجلـيه» و«يمشي خائفا مغموما كأنّه سكران» و«يجوع فلا يأكل» و«يعطش فلا يشرب»، إلى الحد الذي يرى الماء «فـيفزع منه، وربّما يموت منه خوفا»، وإذا رأى «شبح حمل علـيه من غير نبح» وتهرب منه «الكلاب» «فإذا دنا منها غفلة بصبصت له وخضعت وخشعت بـين يديه» أما إذا «عقر هذا الكلب إنسانا عرض له أمراض رديئة منها أن يمتنع من شرب الـماء حتـى يهلك عطشا ولايزال يستقـي حتـى إذا سقـي الـماء لـم يشربه، فإذا استـحكمت هذه العلة به فقعد للبول خرج منه شيء علـى هيئة الكلاب الصغار» (حياة الحيوان الكبرى باب الكاف).
وللكلب السلوقـي طباع تختلف قليلا عن طباع الكلاب الأخرى منها: «أنّه إذا عاين الظباء قريبة منه أو بعيدة عرف الـمقبل من الـمدبر ومشي الذكر من مشي الأنثى»، إلى جانب ذلك «يعرف الـميت من الناس والـمتماوت» ويقال «إنّ الروم لا تدفن ميتا حتـى تعرضه علـى الكلاب فـيظهر لهم من شمها إياه علامة تستدل بها علـى حياته أو موته» وهذا النوع من السلوقي يسمى «القلطي» وهو «صغير الـجرم قصير القوائ
العدد 518 - الخميس 05 فبراير 2004م الموافق 13 ذي الحجة 1424هـ