أكد مستشار وزير الثقافة الايراني محمد سعيد النعماني أن الحياة الجديدة بكل ما فيها من تغير وتطور تفرض عدة تحديات على الفقيه والمجتهد تلزمه بتغيير مناهج البحث والاجتهاد بما يتوافق مع روح العصر. وأنه من الضرورة بمكان أن يكون لكل فقيه مجتهد مجلس استشاري.
وكان النعماني قد ألقى محاضرة تحت عنوان «الاجتهاد في عالم متغير» مساء الاثنين 23 فبراير/ شباط الجاري في مركز الشيخ ابراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث ضمن الموسم الثقافي الثالث للمركز. بين فيها أن موضوع الاجتهاد والشروط اللازمة لكل فقيه ليكون قادرا عليه قد شغل الفكر الاسلامي منذ عصوره الأولى، وأن الايمان الكلي بالدين موجود وان اختلفت الرؤى بخصوصه، مؤكدا أهمية التخصص وأهمية أن يأخذ الفقيه المجتهد في تكوينه لرأيه بكل المستجدات على الساحة، إذ إن الفقهاء الأوائل وحينما واجهوا مستجدات جديدة لم يكن لها حضور من قبل، قاموا بممارسة الاجتهاد باستلهام الأصول والأسس في تحديد موقفهم من التحديات التي واجهتها الأمة الاسلامية بعد أن تحولت من حكومة مركزية الى امبراطورية واسعة الأطراف. ضاربا جملة من الأمثلة الدالة على سماحة الاسلام وتيسيره لحياة الناس وطواعيته في التفاعل مع ما يستجد في العصر وعلى أهمية النظر بصورة عصرية في إصدار الأحكام الفقهية والفتاوى.
وجاء في المحاضرة «ان موضوع الاجتهاد قد شغل الفكر الاسلامي منذ عصوره الأولى بسبب الحاجة الى الاجتهاد، ذلك أن الأمة الاسلامية وفي صدرها الأول من جيل الصحابة الذين استقوا منابعهم من النبي وسنته ومن القرآن الكريم كانت قد بدأت الاجتهاد، إذ كان النبي يشجع صحابته عليه، وليس بعيدا عن الأذهان الحديث الذي دار بين معاذ بن جبل حين أرسله الرسول فقال له بماذا تحكم؟ قال بكتاب الله، قال فإن لم تجد؟ قال بسنة نبيه، قال فإن لم تجد؟ قال اجتهد برأيي» فأقره النبي على ذلك. والحقيقة أن المسلمين لم يكونوا ليسمحوا بالاجتهاد الا لمن تخصص فيه، فالاجتهاد والفقه تخصص شأنه شأن أي فرع علمي آخر، مثل الطب والهندسة، فيجب المعرفة بلوازمه وآلياته، وليس بالعمامة والجبة يصبح الفقيه مجتهدا.
وتابع موضحا «إن ثورة الاتصالات جعلت من هذه الأفكار المتعلقة بالاجتهاد ضرورة يجب طرحها فالاسلام يحاول أن يوجد حلولا للمشكلات الجديدة في الأمة الاسلامية، وخصوصا أن كل فريق من الناس يوجه النقد للفئة التي يراها هي المسئولة عن هذه المشكلات، فالبعض يرى أهمية الجانب الاقتصادي وأنه يجب على الأمة الاسلامية أن تتكامل اقتصاديا حتى يتسنى لها حل مشكلاتها، والبعض يوجه اللوم والتقريع الى الفقهاء وعدم قدرتهم على مسايرة العصر، ولكن حل هذه المشكلات يتم بالتعاون بين جميع هذه الأطياف الاجتماعية فكما أن الحاكم مسئول كذلك المثقف ورجل الشارع مسئولان. ذلك أننا أمة تمتلك رسالة نؤمن بها جميعا والأمة بطبيعتها متدينة، فالدين بمفهومه العام تختلف الرؤى بخصوصه ولكن الايمان الكلي موجود فيجب أن لا يؤخذ بالدين لصالح جماعة أو فئة معينة».
وأردف: «إننا أمام هذه الحقيقة يجب علينا بداية الاتفاق بخصوص الاسلام وهل أنه مجرد منهج أخلاقي بحت أم أنه أحكام وشريعة أيضا؟ فلن يكون هناك اجتهاد دون أن تكون هناك شريعة، والحقيقة أنه من خلال آيات القرآن الكريم وتاريخ المسلمين في الصدر الأول يتبين لنا أن الاسلام دين يحمل الى جانب القيم والمفاهيم الأخلاقية جانبا آخر يتمثل في الشريعة، ولكننا في إيماننا بهذا الجانب التشريعي نريد أن نطور المؤسسات الفقهية لكي لا يبقى الاجتهاد محنطا وانما قادر على مواكبة المتغيرات، وهذا ما فعله الفقهاء الأوائل حينما واجهوا مستجدات جديدة، وهو الاجتهاد الذي استلهم الأصول والأسس في تحديد الموقف من التحديات التي واجهتها الأمة الاسلامية بعد أن تحولت من حكومة مركزية الى امبراطورية واسعة الأطراف، الأمر الذي ولَّد عدة مدارس فقهية مثل مدرسة النص، التي كانت تتمسك بالظاهر وتغلِّب النص حتى لو كانت أدلته غير كافية، ومدرسة الرأي التي تعتمد على العقل وغيرها، ولاتزال هذه المدارس موجودة حتى اليوم والاجتهاد اليوم لا يخرج عن ذلك وان كان هناك اختلاف في الرؤى بين فقيه وآخر.
واستدرك المحاضر قائلا «ولكني أريد من المجتهد أن يكون قادرا على فهم الواقع المعاش، أريده ان لا يتمرد على الواقع الذي لن يخلف لنا بتمرده سوى انتكاسة كبيرة، اذ يجب عليه أن يواجه هذا الواقع ولا يتخطاه. وبهذا الخصوص أورد هنا نصا لعابد الجابري في أحد كتبه إذ يقول «لا سبيل الى الاجتهاد الا من داخل التراث نفسه مع ضرورة الاستفادة من وسائل العصر» وكذلك الأمر مع فقه المقاصد، اذ يجب على المجتهد أن لا يطرح آراء علمية ليس لها علاقة بالواقع المعاش، فالكل يؤمن أن الاسلام يتحرك في دائرة المصالح، وأورد هنا نصا آخر للشيخ المفيد «للسلطان ولي الأمر أن يجبر المحتكر على إخراج غلته في أسواق المسلمين وله أن يسعِّرها بحسب مصلحة المسلمين» ذلك أن دليل رعاية المصالح أقوى من أدلة الاجماع.
وأضاف «يجب على الفقيه المجتهد أن يعيش الزمان لكي يدرك أبعاد المجتمع ويدرك تحدياته، فهو يرفض العولمة مثلا ولكن العولمة داخلة في كل بيت، فالفكر لا يواجه بالرفض المطلق. كذلك على الفقيه المجتهد تحد آخر وهو تحدي الخطاب، إذ عليه أن يعرف طريقة الطرح وأسلوب الدفاع، فهناك جملة من النصوص تبين لنا سماحة الاسلام نذكر منها أن شخصا أتى الامام علي بن أبي طالب وسأله بخصوص قول الرسول (ص) خضبوا الشيب ولا تشبهوا باليهود» فقال الامام ما مضمونه: أما الآن فامرؤ وما اختار، شخص آخر اعترض على الامام الصادق وما يلبسه من لباس جميل مذكرا إياه بزهد جده الامام علي فقال الامام الصادق ما مضمونه «لباس كل زمان لباس أهله».
وأجاب النعماني على مداخلة بخصوص الذهنية السائدة للفقهاء والمجتهدين موضحا أنه من ضمن الشروط التي أكد العلماء على أهمية توافرها في المجتهد أن لا يكون مفرطا في اصدار الفتيا وأن لا يكون مفْرطا في الاحتياط وانما بين بين، فعلى الفرد الذي لا يجد نفسه قادرا على أن يكون في هذا الموقف أن يعتزل الاجتهاد، فان هناك أمورا كثيرة طارئة تفرض على المجتهد التيسير على الناس وإعادة النظر فيها، مثلا مسألة تكاثر النسل وامتثال الفقهاء لقول الرسول الأكرم «تناكحوا تكاثروا فإني مباهٍ بكم الأمم» والمعنى واضح بأن التكاثر مشروط بالمباهاة التي تعني التميز، وليس بكثرة الانجاب وترك الأبناء في الشوارع، بينما الآن الحياة تفرض تحديد النسل، فهل نلتزم بنص الحديث على مصلحة الناس؟ مثال آخر وهو تحريم الفنون كالرسم والنحت، وقد كان مشروطا بعبادة الأصنام التي كان يصنعها الكافرون ولكن السؤال هل هناك أحد الآن يعبد الأصنام؟! فالأخذ بهذه الفكرة معناه حرمان الناس من أعمال غاية في الروعة وخسران لطاقة ابداعية يمكن الاستفادة منها، حتى أننا نحن قد اعترضنا على من قام بهدم تماثيل بوذا في أفغانستان، وألقينا الحجة عليهم بأنهم ليسوا بأفضل من الصحابة الذين دخلوا مصر ووجدوا تمثال أبو الهول فيها ولم يقوموا بهدمه، مثال ثالث اختلاف الفقهاء في تحديد هلال شهر رمضان، ومن ذلك أيضا اختلافهم في عيد الحج مع أن المشهور أن الحجاج يلتزمون برأي الفقيه في بلد الحج، وكمثال آخر لاعادة النظر في بعض الأمور الفقهية التشديد على رمي الجمرات قبل الزوال، الأمر الذي تسبب في الكثير من الحوادث التي راح ضحيتها الحجاج بفعل التدافع، مع أن رمي الجمرات ما هي الا أمور رمزية. وأتساءل هنا الآن كيف يمكن لشريعة وجدت قبل 1400 سنة أن تطبق اليوم بحذافيرها؟! ان الله سبحانه وتعالى يقول «قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي» (الكهف: 109)، وكلمات الله هي آياته، وهذا العالم الفسيح بكل ما فيه من أمور مستجدة يفرض علينا الأخذ بمناهج جديدة للبحث ورؤية أعمق وأجرأ في الاشتغال بالاجتهاد
العدد 539 - الخميس 26 فبراير 2004م الموافق 05 محرم 1425هـ