يقول وزير الثقافة السابق ووزير الخارجية الحالي والأب الروحي لأصيلة محمد بن عيسى: أول ما يمر بذاكرتي كلما تذكرت موسم أصيلة الثقافي الدولي اليوم الأول للموسم، وأنا افتتحه في «قصر الريسوني» الذي سيصبح لاحقا «قصر الثقافة»، إذ تحدثت في كلمة مرتجلة قلت فيها: «أتمنى أن أعيش لأرى موسم أصيلة في الـ 25 من عمره». كانت هذه أمنيتي وبطبيعة الحال كانت أمنية تعبر عن أملي في أن يطول مسار هذا العمل الذي بدأ صغيرا يحبو أو بدأ كالنطفة».
أتذكر تلك الصباحات التي كنت استيقظ فيها في بيتي في أصيلة لأجد نفسي نائما في المطبخ؛ لأن البيت كان يتكون من ثلاث غرف كان يقيم بها بعض ضيوف الموسم. الشاعر أدونيس وزوجته خالدة في الغرفة الرئيسية وكان الشاعر اللبناني صلاح ستيتية وزوجته في غرفة أخرى والحبيب بولعراس أمين عام المغرب العربي حاليا وزوجته في الغرفة الثالثة. كان هاجسي كل صباح كيف أتدبر فطورا لهؤلاء الضيوف. كان خالي وهو مازال على قيد الحياة لديه دكان صغير كنت آخذ منه 30 أو 40 درهما (3 إلى 4 دولارات) اشتري بها رغائف نسميها «الإسفنج» لتحضير الفطور. أتذكر الجرأة والشجاعة التي ربما لا أملكها الآن. أتذكر كيف تجرأت وتشجعت لأذهب مثلا إلى نيويورك واتصل بصديق عزيز توفي، هو الفنان «بوب بلاكبورن» ليزودني ببعض الأسماء. حولت 10 دولارات إلى قطع نقدية لإجراء مكالمات هاتفية مع الأسماء الموجودة في اللائحة كان فيها محمد عمر خليل، ورودولفو ابولاراش من غواتيمالا وكاميل بيلوبس من الولايات المتحدة وناصر السومي من فلسطين وسالم الدباغ من العراق وفريد بلكاهية من المغرب وغيرهم، وكان يشرف على الورش رفيقي في المشروع الفنان محمد المليحي. كلهم دعوتهم لأصيلة، ثم بدأت أفكر في كيفية استقبال هؤلاء الضيوف. كنت اقترضت من الخطوط الملكية المغربية تذاكر السفر، كانوا حوالي 11 فنانا تشكيليا اسكناهم في «قصر الريسوني» المتداعي يفترشون الأرض ويتزودون بالماء من البئر إذ كانت أصيلة بلا ماء. حينما أتذكر كل هذا أقول مع نفسي ان كل عمل ثابت هادف وجدي لابد أن تكون فيه روح المغامرة جدية وثابتة أيضا ولابد من ثقة في النفس، إذ لم أخش أبدا من الفشل لسبب بسيط هو أن كل عمل أبدأه بروح طيبة وبنية حسنة وبإصرار.
أتذكر كذلك كيف كنت محط شك من طرف السلطات الأمنية في المنطقة، ذلك أن أصيلة كانت مدينة منسية في قعر الفقر، فقيرة في كل شيء، في الهياكل، في الخدمات، من دون صيدلية، لا يوجد بها ولو تلكس واحد، بلا كهرباء... فجأة أصبحت في بضعة أسابيع تكتب عنها صحف عالمية مثل «نيويورك تايمز» و«الغارديان» و«البايس» و«لوموند» و«لاربوبليكا»، معتمدا في ذلك على علاقاتي الشخصية لأنني كنت مديرا لقسم الإعلام في منظمة الأغذية والزراعة (الفاو). كنت أعرف أكثر من ألف صحافي في العالم، ومن الطبيعي أن يكون لي صديق صحافي في كل صحيفة مهمة في العالم.
كنا آنذاك أنا والمليحي لا حول لنا ولا قوة كعضوين داخل المجلس البلدي، لم نكن من الغالبية التي كانت مشكلة من أعضاء في حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي. لم تكن لنا إمكانات حتى لاستضافة الفنانين الذين قررنا دعوتهم لصباغة الجداريات. فأخذت الآلة الكاتبة من المجلس البلدي إلى بيتي وطبعت الرسائل بيدي وأعطيتها لرئيس المجلس آنذاك الأستاذ محمد الحساني (شافاه الله) لتوقيعها. عندما جاء الفنانون استضفتهم في بيتي وكانوا حوالي 11 فنانا.
اذكر وأنا مع المليحي في طريق العودة من طنجة إلى أصيلة، قلت له يجب ان نفكر في تأسيس جمعية. وافقني على الفكرة، وسألته «ماذا نسميها؟». فأجاب «اطلنتيس» فعلقت قائلا: «أنت دائما تفكر باللغة الأجنبية». كنا نسير بمحاذاة المحيط الأطلسي فقال لي المليحي: «لماذا اذا لا نسميها (المحيط)»، وافقته على ذلك. كان ذلك قرب مغيب الشمس. وحينما وصلنا إلى أصيلة وجدنا مجموعة من شبان البلدة في المقاهي اقترحنا عليهم أن نذهب إلى «دار الشباب» لتشكيل جمعية. هكذا تشكلت «جمعية المحيط» التي انبثق عنها موسم أصيلة الثقافي وسلمنا محضر التأسيس للسلطات المحلية في اليوم التالي.
بعد ذلك دخلنا في أزمات حقيقية بسبب العجز المالي، وتراكم الديون إلى أن أتى يوم كان سيباع فيه بيتي في المزاد العلني. كان ذلك العام 1980 لأننا لم نستطع تسديد الديون. واذكر أنني ذهبت وطرقت كل الأبواب. ذهبت عند عدد كبير من الناس لفك هذه الضائقة ولكن دون جدوى.
عندما بدأت فكرة إقامة موسم أصيلة تسيطر على تفكيري لم أتحدث مطلقا مع أي أحد عن المشروع سوى مع صديق العمر الفنان محمد المليحي. تحدثت في ما بعد مع محافظ المنطقة عن إقامة مهرجان وتأسيس جمعية، كان الأمر مجرد كلام عام. كنت عضوا في المجلس البلدي في أصيلة وهو منتخب، وفجأة دعيت لاجتماع مع بعض الناس لا أعرفهم يريدون تنظيم «مهرجان أصيلة الدولي» أناس كانت لهم مقاصد خاصة ولهم موازنة هائلة. اجتمعت بهم أنا والأخ المليحي، قالوا لنا «يمكننا أن نساعدكم على أساس أن ننظم مهرجانا واحدا مشتركا». كانت غايتهم جلب اكبر عدد من السياح تحت شعار «أصيلة مدينة للبيع» ونشروا نصف صفحة في «لوموند» و«لوفيغارو»، وعلقوا ملصقات في ميترو باريس تقول «أصيلة للبيع... ولا تتسمروا أغبياء» وقالوا ان هذا سيخلق جسرا سياحيا بين مدينة طبرقة في تونس وأصيلة في المغرب. واستثمروا ما يعادل مليوني دولار سنة 1978.
رفضنا الفكرة، قلنا لهم هدفنا ليس تجاريا ولا نسعى إلى جلب السياح، بل لابد أن نهيئ المدينة لأنها كانت تعيش في ظروف لا تؤهلها لأن تصبح قبلة لأي سائح. ثم قلنا لهم لابد من استئذان أهل المدينة، وهذا ما أثار حفيظة كثير من المسئولين، واعتبروا هذا كلاما خطيرا حين قلنا لا يمكن تجاهل السكان. أتذكر أنني ذهبت ومددت نفسي في باب المدينة القديمة، وقلت «ليمروا على جسدي وأنا حي» ولكن لن يدخلوا أبدا المدينة القديمة. كان مصرف «القرض العقاري والسياحي» تبنى المشروع مع جماعة تونسية، وأسسوا معهم شركة لتنظيم مهرجان أصيلة الدولي. ثم دعانا رئيس الوزراء آنذاك أحمد عصمان للاجتماع معه ولم أكن أعرفه، كنت أراه لماما في البرلمان. فوجدت نفسي أمام رجل وسيم هادئ مهذب ومعه مدير عام القرض العقاري والسياحي الفاسي الفهري (رحمه الله). سألنا عصمان: ما المشكلة؟ تحدث الفاسي الفهري الذي اصبح صديقي فيما بعد، فقال: نحن اخترنا أصيلة لاستقطاب 4 آلاف سائح سنويا. وسألني عصمان عن رأيي. كان جوابي أنه لا يمكن إقحام المدينة في هذا المشروع، وأوضحت له أن أصيلة لها حرمتها ومقابرها وشيوخها وبعض ناسها لم يغادروها مطلقا. أنا مثلا كانت والدتي تُقيّم كل مسافة في العالم بالمسافة بين طنجة وأصيلة. إذا قلت لها كنت في نيويورك تسألني هل تبعد مرتين أو ثلاثا عن المسافة بين طنجة وأصيلة؟! فكيف يمكننا هكذا فجأة أن تأتي الينا مريم ماكيبا، ورافي شنكار، وكييف جاريت، ومجموعة من كبار الفنانين العالميين؟ هل نحن هيأنا لهم الظروف؟ ثم إنهم لم يستشيروا المجلس البلدي المنتخب للمدينة أو السكان. كنت حادا في معارضتي للمشروع الذي نظم على كل حال سنة واحدة فقط، أتذكر أنني كنت بعد هذه الواقعة بسنوات مع عصمان وهو زعيم الحزب الوطني للأحرار وصهر الأسرة الملكية الحاكمة في الطائرة بين سيدني - استراليا وكولومبو - سري لانكا ومسافة الرحلة طويلة حوالي ثماني ساعات طيران، تذكر عصمان تلك الواقعة وقال لي: «كنت كالأسد وكنت متعاطفا معك». بعد أن استمع لنا عصمان كان قراره أن تنظم كل جهة مهرجانها وهذا الذي دفعنا أنا والأخ المليحي إلى أن نغير اسم «مهرجان أصيلة الثقافي» إلى «موسم أصيلة الثقافي». فكرنا وقلنا إن «الموسم» له أيضا تفعيلة دينية وصوفية مغربية، هناك موسم الأولياء وكنا أول ناس استعملنا كلمة «موسم». ثم انني أتذكر صور الضيوف الذين رحلوا أمثال لويس عوض، البرتو مورافيا، والكاتب البرازيلي جورج أمادو، والشعراء ليوبولد سيدار سنغور وعبدالوهاب البياتي وبلند الحيدري وتشيكايا اوتامسي والفيلسوف عزيزالحبابي وآخرين. أتذكر هؤلاء الناس ويطول الزمن بي ويقصر لزخم ما عشناه عبر السنوات وما عانيناه، وكيف كنا نقيم مسرحا في الهواء الطلق وليست لنا إنارة. كنا نضيء المسرح بالسيارات ونجلس على الأرض. أتذكر كيف كنا نواجه معارضة من السلطة، ومن بعض الأحزاب والهيئات. كان أمرا غريبا، وكل واحد وصفنا بما يريد. بعضهم قال إننا تجار، ونعتونا بنعوت مخزية. وكان هناك من كتب صفحات داخل وخارج المغرب يعارض فيها «الموسم»
العدد 598 - الأحد 25 أبريل 2004م الموافق 05 ربيع الاول 1425هـ