العدد 632 - السبت 29 مايو 2004م الموافق 09 ربيع الثاني 1425هـ

«معارك حب»: حكاية لينا البارحة... طفولتها في مجتمع ومدينة مدمرين

كيف يمكن بعد للسينما أن تقترب من الحرب اللبنانية التي لاتزال - بعد انتهائها بعقد ونصف العقد من السنين - تثقل على أذهان الغالبية العظمى من اللبنانيين، ولاسيما أبناء الاجيال التي عاشت الحرب في طفولتها: كانت هي إذا، محورها من دون أن تشارك فيها؟

هناك طرق عدة للاقتراب من هذه الحرب. ونعرف أن السينمائيين اللبنانيين، منذ مارون بغدادي وبرهان علوية، ومنذ ثلاثين عاما، جربوا كل هذه الطرق. أحيانا بسعادة ونجاح، وفي بعض الأحيان من دون توفيق يذكر. وهم جربوا هذه الطرق الى درجة أن كثرا يقولون الآن: إن أي كلام عن الحرب اللبنانية، في السينما على الأقل، سيكون زائدا ومن دون جدوى. ومع هذا لايزال ثمة سينمائيون لا يجدون عن موضوع الحرب بديلا. ومن هنا يرون أن عليهم «إعادة اختراع» سينما الحرب والبحث عن أساليب لعل أفضلها ينطلق من السؤال الآتي: كيف نقول الحرب اللبنانية من دون أن نضطر إلى أن نقولها: هل نقولها مثلا في تأثيراتها، وفي بقائها في الأذهان، في انعكاسها المباشر وغير المباشر على حياة الناس؟...

ومن هؤلاء اليوم، السينمائية الشابة دانيال عربيد التي عرض فيلمها الروائي الطويل الأول «معارك حب» في تظاهرة «أسبوعي المخرجين» في دورة هذا العام لمهرجان كان. بشكل عام يمكن لدانيال عربيد أن تقول ان فيلمها ليس فيلما عن الحرب، ذلك أن الحرب لا تشكل سوى خلفية الحوادث التي يتكون منها موضوع الفيلم: نسمع الحرب، نعيش أجواءها، بل حتى نرى الفاعلين فيها - وإن في جانب واحد من المدينة - غير أننا كمتفرجين قد لا نبالي بها، اذا ما تتبعنا جيدا. الحكاية الأخرى - الأساسية - التي تود دانيال أن تحكيها لنا. وهذه الحكاية قد تكون مرتبطة، بشكل أو بآخر، بسيرتها الذاتية إذا افترضنا ان لينا، بطلة الفيلم الطفلة ذات الاثني عشر عاما صورة من المخرجة التي كانت في السن نفسها، كما يبدو، خلال تلك المرحلة التي تصورها من الحرب. لينا الطفلة، ابنة العائلة المسيحية البورجوازية - ظاهريا - تعيش هنا حربها الخاصة، ترصدها، تتماشى معها من دون أن يبدو عليها أنها حقا تبالي بها. ما يهم لينا هنا هو اكتشافها المبكر لعالم الكبار وتتبع حياتها العائلية بين أب مقامر ها هو في طريقه ليوصل العائلة كلها الى الدمار، وأم مستسلمة معظم الاوقات بالكاد تعثر على حل لمعضلات الحياة اليومية. المناخ العائلي في بيت لينا، مكفهر بشكل عام، ويزيد من اكفهراره، سكن عمتها (اخت ابيها) فؤاد، في الطابق الأعلى، وحرص هذه الأخيرة على عدم مد يد المساعدة للأب في أزماته المالية الخانقة. ولكن حتى هذا الأمر اذ ترصده عينا لينا، يصبح عندها ثانوي الأهمية، اذ تعثر على عزائها لدى الخادمة الصبية سهام، الحسناء الآتية من سورية مشتراة من قبل العمة، والتي هي تتفتح مراهقتها على الحب والجنس وبالكاد يمكنها ان تستوعب كل ذلك القهر الذي تعامل به في منزل مخدومتها، والواصل الى حد العنصرية.

غير أننا لن نرى هذا كله، في الفيلم، الا من خلال عيني لينا. اذ هنا وللمرة الأولى في السينما اللبنانية، لدينا وجهة نظر واضحة في الفيلم، ما يغلب العنصر الذاتي، حتى بالنسبة الى حكاية الحرب والحكايات العائلية: ان لينا هي التي تحكي لنا. والحكاية التي نشاهدها هنا هي حكاية لينا. والحقيقة أن الاعتماد على هذا البعد الذاتي في السرد الفيلمي هو الذي انقذ فيلمها، لولا وجود لينا فيه، ولولا علاقتها بسهام لكان لا يصلح الى أكثر من ان يكون سهرة تلفزيونية اجتماعية.

وانطلاقا من ذلك فإن واحدا من جوانب الفيلم الممتعة وهي ليست كثيرة على أية حال - يكمن في متابعة كاميرا دانيال عربيد، وهي تتابع نظرة لينا وتتبناها كليا، مع استثناءات قليلة شكلت نقاط ضعف ولكنها يمكن ان تمر مرور الكرام، من دون ان تستوقف أحدا حقا. ومن هنا تأتي النظرة الى الحرب ومجتمعها في نظرتين: الكاميرا ترصد لينا، ولينا ترصد ما يحدث من حولها. وما يحدث لها ايضا. ذلك ان لينا لا تلبث أن ترتبط بتلك العلاقة الغامضة مع سهام. سهام قد تكون هنا أنا / آخر لها، أو الأنا التي تنشد هي أن تكونها، غير مبالية بكونها خادمة. وهذا ما تضعنا المخرجة في صلبه منذ اللحظات الأولى في الفيلم، اذ تقول لينا لسهام همسا: «أنا أنت... أنا مثلك يا سهام». ومن هنا فإن لينا وليس سهام، من يختزن في الحقيقة كل ذلك الحقد الطبقي الذي يمكن ان تجابه به سهام تعامل مخدومتها معها. سهام هنا لا تبدو مهتمة الا بغرامياتها واكتشافها الجنس وممارستها له، من دون أن تشعر ولو للحظة - في البداية على الأقل - بأنها غريبة عن هذا المجتمع. على عكس لينا .

أما المجتمع هنا، فإنه ذاك الذي لم يقدم كثيرا قبل الآن في السينما اللبنانية : مجتمع «الجانب الآخر» من المدينة أي ما كان يدعى، في ذلك الحين «بيروت الشرقية» إذ السيطرة للقوات اللبنانية وحزب الكتائب، مقابل سيطرة الفلسطينيين والمسلمين والتقدميين اللبنانيين على الجانب الغربي من بيروت. غير أن هذا بالكاد نلمس حضوره في الفيلم... وذلك تحديدا لان بيروت الأخرى، هي عالم بعيد جدا بالنسبة الى لينا. لينا ترفض مجتمعها وتتعامل معه، وحتى مع ابيها بشكل سلبي للغاية، ولكن ليس، طبعا لصالح انتماء الى المجتمع الآخر... بل الى سهام. حياة سهام هي حياتها، ممارسات سهام هي محط اهتمامها، والدفاع الضمني عن سهام - ولو بنظرات العيون الغاضبة - هو تفاصيل حياتها اليومية. وفي المقابل فإن سهام اذ تسير في دربها زارعة - ومن دون ان تدري ربما - وعيا بالحياة والحب والجنس، في طفولة لينا، قد لا يعدو اهتمامها برفيقتها الصغيرة طابع الاهتمام الانتهازي: انها تستخدمها تغطية لمغامراتها. وهكذا على خلفية هذه العلاقة الهامشية التي تنشأ بين غريبتين: احداهما ابنة المجتمع لكنها غريبة - اختياريا - عنه، والثانية غريبة عنه لكنها تندمج فيه من دون عقبات... ترسم لنا دانيال عربيد علاقة مدهشة، ومن خلال العلاقة تغوص في تفاصيل الحياة في المجتمع المسيحي اللبناني. وفي ذلك التقاطع بين هذين البعدين، يتمكن المتفرج من الدخول في كل التناقضات الاجتماعية والسياسية والبشرية التي تخلقها الحرب وتعكسها على الأفراد. وهذا التناقض يصل الى الانعكاس في لغة دانيال عربيد السينمائية، اذ في أحيان كثيرة نجدها تلجأ الى اللقطات الكبيرة الثابتة، للوجوه أو للامكنة، لباب أو لوجه كلب، ليافطة، أو لكتابة سياسية على الجدار... وفي أحيان أخرى نراها تحرك الكاميرا بشكل مفاجئ ولاسيما حين تصور معركة او شجارا أو ما شابه ذلك. وهذا التتالي بين الأسلوبين يسجل هنا لحساب المخرجة التي من خلال ذلك كله ترسم الحوادث المتلاحقة، ثم تقف بكل هدوء لتتأمل أمكنتها والمشاركين فيها، الى درجة تجعلنا نشعر في بعض الاحيان أننا في رواق مليء بالبورتريهات. والحقيقة أن هذا الجانب في سينما دانيال عربيد، وكما نجد في هذا الفيلم الأول، جدير بلفت الانتباه، إذ إن هذه المخرجة الآتية من عالم الفيلم التسجيلي القصير، اذ تبدو وفي معظم لحظات الفيلم عاجزة عن تحريك ممثليها أو ادارتهم كما يجب - ومعظمهم من غير المحترفين، فان كانوا من المحترفين تبدو دانيال عربيد عاجزة عن السيطرة عليهم، فتستبدل هذه السيطرة بلقطات ثابتة، تتحرى ملامحهم، وتبدو كما لو كانت تدخل الى مسام جلودهم. وما ينطبق هنا على وجوه البشر ينطبق على الأماكن أيضا: من ابواب مغلقة الى درج داخلي، الى سطح، الى سيارة... أمام كل هذه - وبدلالتها المتعددة - تعرف كاميرا دانيال عربيد كيف تتوقف في حركة انقاذ - جمالي بحت في معظم الاحيان - لسياق فيلمها.

غير أن هذا القول يجب الا يفهم منه أن السياق الدرامي غائب... بل إنه حاضر، وبقوة، ولكن ليس من خلال الحيز الاجتماعي، بل تحديدا من خلال الحيز الهامشي الضيق والحميم، الذي يمثله اتكاء لينا كليا على علاقتها مع سهام لتبرير حياتها. وفي هذا الإطار تبدو لينا وكأنها تعيش الحياتين معا: حياتها وحياة سهام. ومن هنا حين يفيض الكيل الطبقي والعنصري بسهام في النهاية وتقرر الهرب مع حبيب لها، تصعق لينا، حتى مع معرفتها بأن سهام لم تعد قادرة على التحمل ومن هنا، اذ تخبرها سهام بانها ستهرب وتطلب منها المساعدة، لا يكون أمام لينا التي باتت تفضل انقاذ علاقتها مع سهام، على انقاذ سهام نفسها، الا أن تشي بها. وهكذا، اذ تعاقب سهام من قبل مخدومتها بأن تسجن داخل شقة هذه الاخيرة دون أي حق في الخروج. تعاقب سهام لينا بصمت حاقد ملتبس. وأمام مثل هذا العقاب تفقد لينا كل اهتمام بأي شيء آخر كالحرب، المدينة، الناس... بل إن موت أبيها نفسه لا يحرك لديها أية مشاعر. تعيش وعينها على باب شقة العمة: متى يفتح وتطل سهام. وفي النهاية، حين تطل سهام، تتمكن من الهرب بعد أن تخبر لينا بانها تلعنها الى الابد.

إذا، هذه هي الحكاية التي صورتها دانيال عربيد في فيلم صغير لطيف، من الواضح أن أهم ما فيه هو ذلك القدر الكبير من الأحاسيس الذي يهيمن عليه، ومقدرة المخرجة على ولوج سيكولوجية شخصيتها الرئيسية (لينا). أما الباقون فإن تصويرها لهم يتسم بقدر كبير من البساطة، ولاسيما من ناحية الحياة العائلية التي تصورها أو من ناحية حرب الآخرين التي لا تريد لينا - ولا سهام - ان تعيشها.

انه فيلم عن حرب خاصة. حرب لينا مع طفولتها، صورت - في نهاية الامر - بكاميرا التقطت حساسية تلك التي كانت تعيش زمن - ما قبل - المراهقة في مدينة مدمرة... صورت دانيال دمارها في لقطات يمكن القول انها تترك المتفرج باردا كالمرمر، على عكس تصويرها لمشاعر لينا، التي أتت من القوة والذاتية ما يبرر وجود هذا الفيلم

العدد 632 - السبت 29 مايو 2004م الموافق 09 ربيع الثاني 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً