منذ البداية كان الكل يتوقع من كوينتن تارانتينو، المخرج المشاكس وغريب الأطوار، أن يسير في إعلان نتائج الدورة السابعة والخمسين لمهرجان «كان» السينمائي الدولي، في اتجاهات... غير متوقعة. فهذا السينمائي الذي يؤمن عادة بالسينما الخالصة، سينما النوع والحركة والجمال، والذي لطالما قال في الماضي إنه لا يحب لسينماه أن تحمل أية رسائل فكرية، «فاجأ» أهل كان من حيث لا ينتظرون: أعطى الجوائز لأفلام أقل ما يقال عنها إنها حافلة بالرسائل... ليس الفكرية فقط، بل الايديولوجية أيضا. وإذا كنا نضع كلمة «فاجأ» بين هلالين، فما هذا إلا لأن الذين «فوجئوا» كانوا مجرد مغفلين. إذ، منذ وقف تارانتينو، وسط الصالة قبل أيام عدة من إعلان النتائج، وراح يصفق بحرارة استثنائية لفيلم مواطنه مايكل مور «فهرنهايت 11/9» ويصرخ «بوش... آوت» كان واضحا أن مور سيعود إلى بلده بالسعفة الذهبية، وهي أعلى جوائز المهرجان مكانة...
طبعا تارانتينو لم يكن من حقه، يومها، أن يتصرف على ذلك النحو، إذ يتعين عادة على المحكمين أن يكونوا أكثر تكتما... ولكن أفلم نقل لكم إنه غريب الأطوار؟
فعلها إذا تارانتينو. وكلّل بـ «غار السعفة» جبين صاحب الفيلم/ المرافعة ضد جورج بوش، ثم وقف في اليوم التالي ليقول في مؤتمر صحافي إن الجائزة لم تكن سياسية! طبعا لم يصدقه أحد... وهو ما كان طبعا، ليأمل من أحد أن يصدقه. فهل يمكن لسينمائي حقيقي مثلا - تارانتينو بعد كل شيء سينمائي حقيقي - أن يزعم أن «فهرنهايت 11/9» إنما فاز لمزاياه الفنية؟ حتى مايكل مور ما كان يجرؤ على هذا.
المهم أن السعفة أعطيت لمايكل مور عن فيلمه السياسي الصارخ الذي يدنو من قضايا حرب بوش على صدام ومسائل الإرهاب والعلاقات بين الإدارة الأميركية وعالم الأعمال وما شابه. والحال أن هذا التتويج لم يأتِ غريبا، على مهرجان كثر فيه حديث السياسة والتاريخ، على حساب الفن. بل إن الاثنين لم يفتهما أن يتمازجا بشكل خلاق في عدد - وإن كان ضئيلا - من الأفلام: في «موسيقانا» لجان سلوك غودار، مثلا؛ كما في «الحياة معجزة» لأمير كوستوريتا.
والحقيقة أننا إذا شئنا هنا أن نرسم مؤثرات أولية لمحصلة هذه الدورة، سيمكننا أن نقول من فورنا، إن المؤثر الأول هو طغيان السياسة، وتحديدا بالمعنى التقدمي للكلمة... وهو أمر كان سبق لنا أن أشرنا إليه، بأشكال مختلفة، في هذه الصفحة. ففلسطين، كعقل سياسي كانت حاضرة مرات ومرات، وحرب العراق كانت حاضرة، والتاريخ الأسود للسي آي أيه كان حاضرا (كما في الفيلم الوثائقي الطويل عن سلفادور اللندي، والفيلم عن غيفارا «يوميات سائق دراجة» من إخراج والتر ساليس). وحرب البلقان كانت حاضرة من خلال فيلم كوستوريتا.
ولكن كانت هناك انطلاقات أخرى لا تقل حضورا وأهمية مثل: أفلام السيرة والسيرة الذاتية. فالحال أن المرء كان في إمكانه أن يحصي أكثر دزينة من أفلام طويلة - معظمها متميز - تتناول سيرة أشخاص، كما رووها بأنفسهم، أو كما رواها آخرون عنهم... أشخاص حقيقيون عاشوا بيننا ولايزال بعضهم يعيش ضمن الزعامات الثورية (غيفارا، اللندي) إلى الزعامات السياسية (نيكسون) إلى السينمائيين الذين رووا فصولا من حياتهم (شاهين في «الاسكندرية - نيويورك»، وبيدرو المودوفار في «التربية السيئة») أو سينمائيون وفنانون آخرون رويت عنهم سيرهم (بيتر سيلرز في «حياة أو موت بيتر سيلرز») أو كول بورتر (في «دي لافلي») أو هنري لانغلوا (في «شبح هنري لانغلوا») أو «غلاوبر روشا» أو حتى رومي شنايدر وماريا شيل (التي حقق عنها أخوها ماكسميلان فيلما طريفا)... جال كبار فناني السينما والموسيقى، وكبار ممثلي ومخرجي الماضي والحاضر، أمام أعيننا على الشاشات، ومنذ الافتتاح (المودوفار) وحتى الختام المزدوج (شاهين وكول بورتر)...
وآسيا حضرت كذلك وبقوة هذه المرة، من إيران كيارو ستامي، إلى صين زنغ ييمو وتايلند، واليابان. بل إن آسيا - في خطوة غير معتادة - حصدت جوائز عدة، مثل جائزة أفضل تمثيل ذكوري للممثل الفتي يانا غا، بطل الفيلم الياباني «من يدري؟»، وجائزة لجنة التحكيم الخاصة (للفيلم التايلندي «مرض استوائي») وجائزة لجنة التحكيم الكبرى (للفيلم الكوري «اولد بوي»). وكذلك منحت المخرجة الإسرائيلية الشابة كارين يدايا، جائزة الكاميرا الذهبية (وهي تمنح عادة لمخرجين يقدمون أعمالهم الأولى) عن فيلمها «ياكنزي». والملفت أن هذه الفنانة حين اعتلت الخشبة لتنال جائزتها، اختارت أن يكون خطاب شكرها تنديدا بالسلطات الإسرائيلية التي تستعبد الشعوب (الشعب الفلسطيني تحديدا)، ودعوة إلى إنقاذ الفلسطينيين من براثن شارون.
وأخيرا، إذا كان الفرنسيون اعتادوا الشكوى الدائمة من حرمانهم من الجوائز الكبرى في المهرجان منذ عشرين عاما، فإن عزاءهم كان أنهم هذه المرة حصدوا ثلاث جوائز أساسية: جائزة الإخراج لطوني غاتليف - وسلمها إليه مخرجنا العربي الكبير يوسف شاهين - عن فيلمه الذي تدور بعض حوادثه في الجزائر «المنفيون»، وجائزة أفضل سيناريو لجان كلود بكري وإيناس جاوي عن فيلم «كما في الصورة» والممثلة الصينية ماغي شونغ عن دورها في فيلم الفرنسي اوليغيه السايس الناطق بالإنجليزية «نظيفة».
طبعا، وكالعادة لم ترضِ هذه النتائج الجميع... وخصوصا أن كثيرا من كبار النقاد والهواة تساءلوا في دهشة: ... ولكن أين «2046» لودنغ كارداي، هذه التحفة الفنية الاستثنائية؟ وأين «الحياة معجزة» لأمير كوستوريتا؟ بل أين ذهبت تحفة البرازيلي والتر ساليس عن شباب غيفارا وجولته على دراجة نارية في رحاب أميركا اللاتينية قبل أن يصبح الثائر الذي نعرفه؟
أما الجواب فكان كالعادة: تلك هي قواعد اللعبة... ومن بينها القاعدة الذهبية: أنت حين تختار لجنة التحكيم ورئيسها... تكون اخترت سلفا الاتجاه الذي تسير فيه الجوائز... حتى وإن فاجأك رئيس ما بقرار مدهش
العدد 632 - السبت 29 مايو 2004م الموافق 09 ربيع الثاني 1425هـ