ليس المهرجان السينمائي العربي الوحيد الذي يقام في أوروبا، لكنه بالتأكيد المهرجان الأكبر أهمية المكرس لأفلامنا العربية في طول أوروبا وعرضها... ومنذ دزينة من السنوات على الأقل، ونقول على الأقل لأن «مهرجان السينما العربية» في باريس أتى في الأصل وريثا لمهرجان آخر كان يقام في فرنسا، فاتحا باب الريادة أمام عرض أفضل ما ينتج في البلدان العربية، كما أقام مناسبات تقام لتكريم الفنانين العرب الكبار، من مخرجين وممثلين وتقنيين. كان ذلك «مهرجان الفيلم العربي»، الذي توقف منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي ليحل محله المهرجان الذي نحن في صدده، والذي يقام منذ العام 1992، مرة كل عامين داخل مقر معهد العالم العربي في باريس وبرعايته، قبل أن تنتقل بعض أفلامه إلى صالات أخرى وإلى مرسيليا لاحقا.
دورة هذا العام من مهرجان معهد العالم العربي تبدأ إذا خلال أيام قليلة وتتواصل عشرة أيام. ومنذ زمن ثمة كثر ينتظرون انعقاد الدورة لأنها النافذة الأكثر شمولا، التي يطلون منها على جديد الانتاج العربي. أي تحديدا على بعض أفضل ما حقق خلال العامين الفائتين. والحال أن استعراضا لما ستحتوي عليه دورة هذا العام يكفي منذ الآن للقول إن الدورة الجديدة (السابقة) لن تكون مخيبة لآمال المنتظرين. حتى ولو كان في ثناياها بعض ما يغيظ، كالعادة. وحتى إذا كنا نعرف منذ الآن أن الأحكام النهائية للجنة تحكيم المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة، ستحصل - كالعادة - بعض خيبات الأمل وهو أمر صار معهودا طالما أن اختيار لجنة التحكيم في كل مهرجان سينمائي يحدد منذ البداية هوية الفائزين، وثمة سؤال عمن يختار لجان التحكيم. وهذه المرة يبدو السؤال، منذ الآن، أكثر مدة طالما أن الاختيار لرئاسة المحكمين وقع هذه المرة على ممثلة فرنسية مخضرمة من الصعب القول إنها تعرف أشياء كثيرة عن السينما العربية ما يمكنها من أن تكون ذا حكم صائب.
اختيارات... اختيارات
على أية حال يمكن للمرء أن يضرب الفيلم منذ الآن عن الجوائز وعن لجنة التحكيم - التي لم تثبت أية فعالية حقيقية في أية دورة سابقة - ليركز على ما هو مهم، كون المهرجان تلك النافذة الحقيقية التي يتنفس السينمائيون العرب من خلالها، ومن خلالها أيضا يتمكن جمهور السينما العربية في فرنسا، من تلمس ما يحدث في السينما العربية. وفي هذا الإطار يمكن الافتراض، مع بعض الاستثناءات المؤسسية، أن الاختيارات تؤكد مرة أخرى أن «مهرجان السينما العربية» في باريس، هو على الإطلاق أهم مهرجان سينمائي عربي يقام في أي مكان في العالم، بما في ذلك العواصم العربية نفسها. وفي الوقت نفسه يمكن السؤال عن بعض الغيابات، مثلا إذا كان المهرجان قد اختار فيلما لبنانيا جيدا، هو «معارك حب» لدانيال عربيد، لكي يمثل السينما اللبنانية، وحيدا... لماذا أغفل فيلما لبنانيا آخر متميز عرض خلال الشهور الماضية في لبنان وهو «زنار النار» لبهيج حجيج...؟ لقد أرسل حجيج نسخة من فيلمه هذا المأخوذ عن رواية «المستبد» لرشيد الضعيف (في تجربة هي الأولى من نوعها لبنانيا في مجال اقتباس ادبي للسينما)، لكن «لجنة الاختيار» لم ترَ ضرورة لا لعرض الفيلم ولا حتى لتبليغ صاحبه أنه لن يعرض. وهكذا أتى التمثيل اللبناني ناقصا، من دون أن يعني هذا أن «معارك حب» لا يستحق العرض. كان يمكن تمثيل لبنان بفيلمين أسوة بتونس ومصر والجزائر.
من الجزائر إذا ثمة فيلمان هما «المشتبه فيهم» لكمال دهان، وخصوصا «اغتيال الشمس» لعبدالكريم بهلول، وهو فيلم يروي حياة واغتيال شاعر فرنسي/ جزائري كبير من الذين ناضلوا مع الشعب الجزائري في ثورته، ثم قرروا البقاء في الجزائر بعد الاستقلال، الشاعر هو جاك سيناك الذي جرى اغتياله بشكل مفاجئ قبل عقد ونصف العقد، وها هو الفيلم يستعيد ذكراه.
من مصر يأتي فيلم «خريف آدم» لمحمد كامل القليوبي، وهو الفيلم الاجتماعي النفسي الذي كان حقق نجاحا قبل عامين ونال الكثير من الجوائز في غير مناسبة. وهو ما كان من مصير الفيلم الثاني الذي يمثل مصر نفسه، «سهر الليالي»، لهاني خليفة، الذي أعاد الاعتبار إلى السينما المصرية بعد هبوط حاد إلى جانب فيلمين أو ثلاثة أفلام أخرى. «سهر الليالي» يأتي ليقول إن السينما المصرية يمكن أن تكون في خير إذا ما تسلم المبدعون الحقيقيون زمامها. فهل سيقول فيلم الافتتاح وهو «الاسكندرية - نيويورك» ليوسف شاهين شيئا آخر؟ ان المهرجان الباريسي باختياره تحفة شاهين الجديدة، إنما أكد أن في الإمكان بعد القول إن الإبداع لاتزال له مكانته في عالمنا العربي. وهو ما يقال عن المشاركة السورية نفسها التي اقتصرت على فيلم روائي طويل واحد هو «ما يطلبه المستمعون» لعبد اللطيف عبدالحميد.
«ما يطلبه المستمعون» يتجول من مهرجان إلى آخر منذ انجازه قبل شهور ويثبت - من خلال الإقبال عليه - أن فيلما عن التاريخ العربي الحديث يوجه سهام نقده إلى بعض سمات هذا التاريخ، يمكن أن يجد له بعد مكان في حياة الجمهور العربي.
طول وتشابك
ترى أفليس أن بإمكاننا أن نقول الشيء نفسه عن «باب الشمس» ليسري نصرالله الذي بعد أن عرض على هامش المسابقة الرسمية في «كان» سيقدم هنا على هامش المهرجان الباريسي؟ أجل لولا أن طول الفيلم وتشابك بعض حوادثه وشخصياته ولحظات الثرثرة والتكرار الطويلة فيه، ستبدو متعبة للجمهور ما كان عليه أن ينتظر مثل هذا الفيلم ليعرف أشياء جديدة عن مأساة فلسطين. مهما يكن، «باب الشمس» تجربة يمكن أن تخاض، مشاهدة، حتى ولو كان المرء يعرف سلفا أنه سيكون من المستحيل عليه أن يبقى صاعدا طوال الـ 278 دقيقة التي يستمر خلالها عرض الفيلم!
المغرب له هذه المرة حصته الأسوأ: 3 أفلام طويلة، من بين الـ 13 فيلما التي تشارك في المسابقة. ويقينا أن هذه الحصة الفاحشة تدفع إلى السؤال، من دون أن يعني هذا اعتراضا على أفلام نعرف سلفا أن اثنين منها متميزان: «الملائكة لا تحلق فوق الدار البيضاء» لمجد عتلي (سبق أن عرض في دورة «كان» الأخيرة ولفت أنظار نقاد كثيرين، و«جارات أبوموسى» العمل الجديد لمحمد عبدالرحمن القازي الذي يعرف له الجمهور أفلاما كثيرة ناجحة مثل «عابر سبيل» و«باريس» و«البحث عن زوج امرأتي». أما عن الفيلم الثالث فهو «خيط الروح» لحكيم بلعباس... الذي سنعود إليه في رسالة مقبلة بالتأكيد.
حدود الشعبين
من موريتانيا يعود محمد (ميد) هندو، بعد غياب عن الشاشة الكبيرة طال أمده... إذ إن هذا الذي يعتبر أحد مؤسسي سينما الشمال الإفريقي يقدم هنا فيلمه الجديد «فاطمة الجزائرية من السنغال» الذي سيكشفه جمهور المهرجان الباريسي ويرى أين وصل، من خلاله صاحب «سارويانا» و«سود عبيد جيرانكم» وغيرها من شرائط مزجت الاحتجاج الاجتماعي بالرؤية الفنية بشكل خلاف في الماضي. أما تونس فتشارك بفيلمين هما «الكتبية» (2003) لنوفل عنابا، الذي سبق أن عرض مرارا في أكثر من مهرجان ليقدم حكاية تمزج التراث بالبعد الاجتماعي الحميم، و«دار الناس» الجديد من إخراج محمد دمكا.
هذه الأفلام التي ذكرناها، هي التي ستتنافس على الجوائز الرسمية... وستجتذب بالتالي القدر الأكبر من الاهتمام. غير أن تظاهرتها لن تكون الشيء الوحيد في مهرجان يحاول دائما أن يكون جامعا بين راهن السينما وتاريخها. بين طويل أفلامها وقصيرها. وهكذا، إذا كان في وسع الجمهور أن يكتشف أمورا كثيرة من حول السينما العراقية (راجع في مكان آخر من هذه الصفحة) عبر عروض آتية من تاريخ هذه السينما، وإذا كان سيزداد تعرفا على النجمة مديحة يسري من خلال تكريمها وعرض بعض أبرز أفلامها (راجع أيضا في مكان آخر من هذه الصفحة)، فإن في الدورة تظاهرات أخرى تطل على أنواع متنوعة من الأفلام: تظاهرة الأفلام الروائية القصيرة وفيها نحو عشرين فيلما من تسع بلدان عريقة من بينها السعودية (فيلم «أنا والآخر» لهيفاء منصور، الذي من المؤكد انه سيدفع الجمهور إلى التوقف عنده طويلا... أولا لكونه فيلما يأتي من بلد لم يعرف عنه اهتمام بالانتاج السينمائي، وثانيا لكونه من إخراج فتاة... ناهيك أن موضوعه سيكون مفاجئا للكثيرين)... ومن بينها دولة الإمارات التي تشارك بفيلمين لهاني الشيباني ولمياء حسين قرقاش. وإضافة إلى هذا هناك أيضا أفلام تسجيلية طويلة وقصيرة، كما أن هناك تظاهرة خاصة تحمل عنوان «عروض خاصة»، وهي تظاهرة يبدو أن الهدف منها كان في الأصل اعتذاريا، لكنها ربما ستفاجئ كثيرين انطلاقا من اصواتها وخصوصا على الفيلم الذي حققه ميشال خليفي وايال سيفان عن «الطريق 181» وهو فيلم أثار ضجة كبيرة إذ قام مخرجاه، من خلاله بجولة على خط التقسيم داخل فلسطين فطلعا بنتائج وانطباعات ولقاءات مدهشة في أوساط الشعبين المعنيين.
يقينا ان هذا الفيلم سيضع فلسطين في واجهة المهرجان، تماما كما سيفعل «باب الشمس» ليسري نصرالله... ثم بشكل خاص «عطش» لتوفيق أبووائل وهو فيلم روائي فلسطيني يتطرق إلى موضوع تراجيدي على الخط الإغريقي حافل بالرموز... وأثار لغطا حين عرض في إحدى تظاهرات دورة «كان» الأخيرة. وخصوصا أنه قدم في آن معا باسم فلسطين و... باسم «إسرائيل»
العدد 653 - السبت 19 يونيو 2004م الموافق 01 جمادى الأولى 1425هـ