العدد 653 - السبت 19 يونيو 2004م الموافق 01 جمادى الأولى 1425هـ

صورة جانبية للسينما العراقية في المهرجان الباريسي

لم تكن السينما العراقية طوال أكثر من نصف قرن مضى على ولادتها الأولى، من السينمات الكبيرة في العالم العربي. فهي منذ الفيلم الأول، في العام 1948 «عليا وعصام» وحتى سنوات الانتاج الأخيرة - خلال تسعينات القرن العشرين - ظلت سينما صغيرة ضئيلة الانتاج، تحاول أن تولد في كل مرة من بين رماد المرحلة السابقة. ومع هذا لم يكن لينقصها الطموح ولا الامكانات أحيانا. ويبدو ان المشكلة الرئيسية التي حالت دون استمرارية هذه السينما، كانت تكمن في الفوضى السياسية والايديولوجية التي عاشها هذا البلد، قبل أن تتحول المشكلة - حين صارت الامكانات المادية متاحة، وصار في امكان طموحات السينمائيين أن تعبر عن نفسها - الى مشكلة علاقة الفن بالسياسة والسلطة. فإذا كان العراق قد أثرى، بفضل عائدات النفط، منذ بداية سبعينات القرن الفائت، وإذا كانت السلطات العراقية في ذلك الحين قد رأت أن من الممكن تكريس جزء من «الثروة القومية» للفن السابع، فانها رأت في الوقت نفسه أن على الفن السابع أن يجعل نفسه في خدمة أفكار السلطة. بل الأدهى من هذا: في خدمة رأس السلطة. وعلى هذا النحو أضاع العراقيون عقدا بعد عقد، كل فرص تحقيق تراكم سينمائي حقيقي، يعلن ولادة ما يمكن أن يسمى: «السينما العراقية».

من هنا، كان على السينمائيين العراقيين الحقيقيين، والذين يمكن القول انهم - فنيا - ورثة ألوف السنين من الابداع الحضاري البصري واللفظي في بلاد الرافدين، كان عليهم أن ينتظروا سنوات المنفى، أو يعيشوا خارج بلدهم من دون نفي، حتى يحققوا ما كانوا يتطلعون الى تحقيقه من أفلام. أما الذين بقوا في الداخل، فكان عليهم غالبا أن يكتفوا بالاستجابة، كثيرا أو قليلا، إلى مطالب السلطة. بل ان الاستجابة تعدت العراقيين لتشمل مخرجين عربا آخرين فتحت أمامهم أبواب بغداد وصناديق ثرواتها، ولكن لكي ينخرطوا في لعبة السينما الدعائية السياسية التي تتوسل التاريخ للاشارة الى «الحاضر». ولعل النموذجين الأبرز على هذا هما «القادسية» لصلاح ابو سيف و«الايام الطويلة» لتوفيق صالح. إذ إن هذين الفنانين المصريين الكبيرين رضيا بأن يحققا في العراق فيلما يمجد «انتصار العرب على الفرس» (في عز الحرب العراقية - الإيرانية) وآخر يمجد «حياة ومآثر» صدام حسين.

من فوائد تظاهرة أفلام السينما العراقية التي تقام على هامش «مهرجان السينما العربية» في باريس، انها ستضعنا في داخل مسار السينما العراقية، حتى ان غضّت الطرف عن فيلمي صلاح أبو سيف وتوفيق صالح، وحسنا تفعل... إذ حسبنا هنا لكي نرسم لانفسنا صورة للانتاج السينمائي العراقي أن تتجابه، من خلال تلك التظاهرة، مع 3 مراحل من مراحل السينما العراقية: مرحلة البدايات معبرا عنها بالفيلم الأول «عليا وعصام»، ثم بالفيلم الروائي الطويل الأول «الحارس» لخليل شوقي. أما المرحلة الثانية، وهي المرحلة التي كانت فيها ايديولوجية السلطة مهيمنة تماما، فان ثمة أفلام عدة تعبر عنها، من دون أن تكون ارذل ما فيها. فهناك «الظامئون» الفيلم الاجتماعي الريفي الذي حققه محمد شكري جميل في العام 1972، ثم «المنعطف» لجعفر علي (1975) الذي تعود حوادثه الى الحقبة الملكية ويقدم لنا تناقضات النخبة المثقفة خلالها، من خلال نماذج يقدمها. ثم «الأهوار» (1976) لقاسم حول وهو تسجيلي في ستين دقيقة، اضافة إلى«النهر» (1977) لفيصل الياسري الذي يضع حوادثه في قرية في جنوب العراق بعيد هزيمة 1967، ويقدمها من خلال الصراع بين الصيادين والتجار الذين يستغلونهم.

والحقيقة أن هذه النماذج تعتبر أفضل ما يعبر عن تلك المرحلة حتى و ان كان المرء يرى أنه كان من الأفضل أيضا اضافة أعمال سابقة لاسمين بارزين من أسماء سينمائيي تلك المرحلة: حكمت لبيب وكاميران حسني.

أما المرحلة الأخيرة فهي تلك التي تمتد من أواسط الثمانينات، وحتى عامنا الحالي هذا... وهي فترة شهدت ازدهار أفلام عراقية غالبا ما تصنع في المنفى وعن قضايا حساسة وشائكة. ونعرف أن الغالبية العظمى من هذه الأفلام تسجيلية، ولعل من ابرزها وأشهرها «زمان رجل القصب» لعامر علوان (2003)، اضافة إلى «انسى... بغداد» الذي حققه سمير (هكذا يفضل ان يوقع أفلامه) عن عدد من الشيوعيين العراقيين من أصول يهودية والذين هاجروا إلى «إسرائيل» لأسباب مختلفة... من دون أن يكفوا لحظة عن أن يحلموا ببغداد والعودة اليها.

هذه الافلام وغيرها، تشكل في حد ذاتها تظاهرة فنية من الواضح ان المتفرجين في المهرجان الباريسي سيستقبلونها كما يجب... ودائما ضمن إطار الاهتمام الراهن بالعراق. من دون ان يتوقعوا من معظمها أن يكون تحفة سينمائية. فقط هي صورة عن سينما تشردت واستغلت... ومع هذا تواصل وجودها... ويبدو اليوم انها تعدنا بالكثير

العدد 653 - السبت 19 يونيو 2004م الموافق 01 جمادى الأولى 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً