لم تصدق عيناي وهي ترى رئيس العراق السابق صدام حسين في شاشة التلفزيون بلحيته الكثة، وشعر رأسه الطويل المنفوش، يفحصه طبيب أميركي بعد اعتقاله في 13 ديسمبر/ كانون الأول 2003م من زنزانته التي اختارها لنفسه، فقد عاش أشهراً بعد دخول الأميركان واحتلال العراق في قبو مظلم أُعد له متوارياً عن الأنظار، كيف ارتضى لنفسه أن يعيش في مكان لا يستطيع أن يعيش فيه الصعاليك والدراويش بعد أن كان رئيساً وقائداً للعراق يعيش في القصور الفخمة ذات الحدائق الغناء، المليئة بالتحف الثمينة النادرة؟ كيف يعيش متوارياً عن الأنظار وهو رئيس العراق الجبار الذي قاد شعبه إلى حروب خلفت العار والدمار؟ المفروض أنه كقائد أن يصمد في المعركة، ولا يولي الدبر أمام جحافل الأميركان ويترك العراق ساحة للنهب والاستغلال!
ثم لم تصدق عيناي أيضاً حين رأته مكبلاً بالسلاسل والحديد، ويمثل أمام القضاة، في 1 يوليو/ تموز 2004م. لم أكن الوحيد الذي اندهش من هذه المواقف والمناظر، بل العالم أجمع، أين صدام الحليق؟ يبرز اليوم بشعر رأسه الطويل، ولحيته المهلهلة، ربما بقي أياماً في القبو لم يلمس جسده الماء ومع هذا مازال يصر أمام القاضي بأنه رئيس جمهورية العراق، ويكررها أكثر من مرة «على نفسها جنت براقش»، لكنني في الأخير تذكرت الآية الكريمة التي تقول: «يعز من يشاء ويذل من يشاء»، ليس هو الوحيد الذي كان عزيزاً، فأصبح ذليلاً، سبقه جاره شاهنشاه إيران محمد رضا بهلوي، فقد خرج هذا من مملكته ذليلاً، ليلقى حتفه مقهوراً بما آل إليه أمره، ويدفن في أرض نائية عن امبراطوريته.
لم يستفد صدام من الدرس القاسي الذي لاقاه جاره شاهنشاه إيران، لم يفكر هو وأعوانه أن هذا مصير كل ظالم، وهل سيستفيد الحكام والرؤساء ومن بيدهم مقاليد أمور الناس بما آل إليه أمر الجارين محمد رضا بهلوي وصدام حسين؟!
ولا أدري كيف قارنت بين الحاكمين، مع فرق كبير بينهما، صحيح أن بهلوي قتل كثيراً من خيرة الشعب الإيراني، لكنه لم يقد شعبه إلى حرب ضد دولة مجاورة، بينما صدام قاد الشعب العراقي إلى حرب بين شعبين يتفقان في قواسم مشتركة: ديناً وعقيدة وجواراً، وتستمر هذه الحرب ثمانية أعوام من العام 1980 وحتى 1988 حصدت الأخضر واليابس، رمّلت نساء، ويتمت أطفالاً، ودفنت شباناً، وانهارت اقتصادات البلدين، لم تكن حرباً عاقلة، لم يستخدم فيها صدام وأعوانه عقولهم، لم يسألوا أنفسهم: لماذا هذه الحرب، ما الأهداف التي من ورائها، ما نتائجها؟
فإذا كانت هناك خلافات، لماذا لم يجلس الحكام على طاولة المفاوضات ليتفاهموا في حل مشكلاتهم، لماذا لم يرجعوا إلى المحافل الدولية التي ينتمون إليها لحل هذه الخلافات، ولتنعم الشعوب بالأمن والسلام، فكثيرة هي الخلافات بين الجيران حتى على الصعيد الاجتماعي في القرية أو المدينة فكيف بين الدول، وخصوصاً مشكلات الحدود، وأنوه في هذا الصدد بتجربتين لحل الخلافات الحدودية الأولى بين البحرين وقطر، فقد حلت مسألة ترسيم الحدود بين البلدين بالرجوع إلى محكمة العدل الدولية، من دون أن يشهر أحدهما السلاح أمام وجه الآخر، والثانية وهي قريبة فقد تم حل الخلاف الحدودي بين اليمن والمملكة العربية السعودية في وئام وتفاهم بينهما.
وأعتقد أن ما أصاب صدام وأعوانه دعوة مظلوم: ذكراً أو أنثى، فدعوة المظلوم تخرق سبع الحجب، وسيستجيب الله للمظلوم آجلاً، أو عاجلاً.
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً
فالظلم آخره يأتيك بالندم
نامت عيونك والمظلوم منتبه
يدعو عليك وعين الله لم تنم
وفي الحقيقة إن الظلم متأصل في نفوس الناس ولكن بدرجات متفاوتة، فرب الأسرة ربما يظلم زوجته وأبناءه، والمدير في العمل ربما يظلم من يختلفون معه عقيدة ورأياً، والحاكم يظلم شعبه ويميز بين هذا وذاك.
فالظلم من شيم النفوس
فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
وبعد أن وضعت حرب الخليج الأولى أوزارها في العام 1988 فكر صدام في حرب أخرى، فقد أصبح ماهراً في الحروب، يتلذذ بالقتل والتعذيب والسجن.
وهذا ما يذكرني بالحجاج بن يوسف الثقفي، وكل منا يعلم ما فعل الحجاج بأهل العراق، مساكين أهل العراق، هم دائماً ضحية الحكام الظالمين، يقول الحجاج لأهل العراق في خطبته الشهيرة «أما والله يا أهل العراق إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، واني لصاحبها، وكأني أنظر للدماء بين العمائم واللحى، ألا فمن أعياه دواؤه فعندي دواؤه، ومن أطال أجله فعلي أن أعجله وإذا أمرت أحدكم ان يخرج من باب وخرج من باب آخر قطعت عنقه» طاغية هذا الزمان ورث ظلم طاغية ذلك الزمان.
ففي العام 1990م غزا الشعب الكويتي في عقر داره، فشتته، وفرت القيادات إلى الدول المجاورة، فما كان من حكامها إلا أن استنجدوا بأميركا لتقلم أظافره، فجاءت بأساطيلها وجنودها، فما كانت إلا أياماً حتى اندحر بجيشه منهزماً والجامعة العربية لم تحرك ساكناً، ووقفت متفرجة لترى ماذا يفعل الأميركان في منطقة الخليج وتمخضت هذه الحرب عن نتائج قاسية على الشعب العراقي وعانى من الحصار الاقتصادي الشيء الكثير، لم يكتف صدام بجرجرة الشعب العراقي إلى حرب خاسرة، بل عدا على الشعب العراقي فأمطر أهالي حلبجة بوابل من المواد الكيماوية، فأصبحت الجثث ملقاة على الأرض، وفي الجنوب العراقي سحق انتفاضة الشيعة وقتل خيرة علمائها كأمثال الشهيد السيدمحمد باقر الصدر، والسيدصادق الصدر، وزج الكثيرين في السجون، ودفنهم في مقابر جماعية، والسعيد من فر هارباً بجلده من جحيم صدام وأعوانه فتشتتوا في إيران وسورية، ودول أوروبا، وأميركا، ودول جنوب شرق آسيا.
وكما استغربت مما رأيته من حال صدام يوم اعتقاله، ويوم مثوله أمام القضاة، استغرب من مجموعة المحامين العرب الذين تبرعوا للدفاع عن صدام، ولكني أُذكّر الاخوة المحامين بما فعله صدام:
1- ألم يجرجر الشعب العراقي إلى حرب ضروس بين العراق وإيران استمرت ثمانية أعوام حصدت الأخضر واليابس؟
2- ألم يقم بغزو الكويت العام 1990، ويشرد أهلها، وحكامها إلى الدول المجاورة؟
3- ألم يستخدم المواد الكيماوية والبيولوجية ضد الأكراد في حلبجة وفي مناطق أخرى وخصوصاً الجنوب؟
4- ألم يقضِ على انتفاضة الشيعة؟
5- ألم يقتل علماء ورجال الدين الأخيار؟
6- ألم يقم بالقتل المتعمد للمواطنين العراقيين؟
7- ألم يدفن العراقيين في مقابر جماعية؟
8- ألم يفر العراقيون من جحيم صدام إلى الأقطار المتعددة؟
9- ألم يرَ المحامون السجون المظلمة؟
ثم لماذا يرفض المحامي عبدالله الأشعل العرض المغري بقيمة مليونين دولار للدفاع عن صدام، ألم يحاسب ضميره، ودينه، بل شرف المهنة التي أقسم عليها. لأن المحامين المتبرعين لم يقتل لهم صدام، لا والداً ولا ولدا، ولم يشرد من أقربائهم أحداً، فلو حصل لهم ما حصل للعراقيين لطالبوا بإعدامه اليوم قبل الغد.
عبدعلي محمد حبيل
العدد 700 - الخميس 05 أغسطس 2004م الموافق 18 جمادى الآخرة 1425هـ