في الوقت المناسب مع فتح أبواب معرض فرانكفورت الدولي للكتاب في دورته رقم 56 وإذ العالم العربي ضيف شرف على هذه المناسبة هذا العام وبعد مرور ثلاثمئة سنة على صدور أول ترجمة لكتاب الحكايات الشهير «ألف ليلة وليلة»، قامت المستعربة الألمانية كلاويا أوت بترجمة جديدة لهذا العمل الأدبي، وذلك من اللغة العربية مباشرة وعن المخطوط نفسه الذي صدرت عنه الترجمة الأولى وكانت باللغة الفرنسية.
وكان أنتوان غالاند وهو متعهد مكتبة قبل ثلاثمئة سنة قام بترجمة رواية «السندباد البحري» وقدمها هدية للماركيزة فون أو، ثم سمع بوجود قصص أخرى مماثلة، وبعدها استطاع أن يحصل على نسخة مخطوطة من سورية ليمتع أوروبا بأول نسخة من «ألف ليلة وليلة» في سنة 1704. وكان النجاح الذي تحقق لهذا الكتاب باهرا بحيث أنسى الناس همومهم، وبين عشية وضحاها أصبح هذا العمل الكتاب الأكثر رواجا والمفضل في بلاد الغرب، وجعل القلوب التي كانت في ذلك الوقت لحد ما تعيش كابوس الخوف من العدو، تغدو نهبا للولع بسحر الشرق.
ما أشبه اليوم بالبارحة. ففي كلمته الموجهة إلى جمهور معرض فرانكفورت الدولي للكتاب قال الكاتب المصري نجيب محفوظ بما معناه إن الغرب على دراية بأدب الشرق. ولاشك في أن محفوظ الذي يعتبر الكاتب العربي الذي تروج كتبه في الغرب منذ أن فاز في العام 1988 بجائزة نوبل للآداب كان يقصد كتاب «ألف ليلة وليلة» الذي بقي على مدى قرون وعقود عالقا في خيال الغربيين. اليوم وقد أصبحت هذه الأقاصيص الثرية بالتنوع تحظى بمباركة حتى أولئك المثقفين من العرب الذين كانوا في الماضي يعربون عن احتقارهم لهذا الأثر الشعبي الذي لا يرون فيه سوى ثرثرة بائسة وهزيلة اقتصرت معرفة الغرب من جهة أخرى على «ألف ليلة وليلة» فقط.
لقد كشف غالاند عن كنز من كنوز الأدب العالمي وقام بترجمته شعريا وبطريقة حرة بأسلوب عصره آنذاك، الأمر الذي ساعد بالتأكيد على الترويج بقوة لهذا الكتاب. منذ ذلك الوقت ظهرت ترجمات كثيرة ومتنوعة وكان من بينها ما كان على غاية من الشهرة مثل تلك التي أنجزها إنو ليتمام (1921 - 1928)، لكنها كانت جميعها تعتمد على مخطوطات حديثة العهد.
وبذلك تكون النسخة التي ظفر بها غالاند في شكل مقتطفات تتكون من 282 ليلة ليست الأقدم فحسب، بل وعلاوة على ذلك ذات طابع سردي حي على نحو خاص أي لغة فصحى سليمة وإن كانت العامية تظل تعود دوما للظهور من خلالها مضفية نبرة أقرب للتلقائية الشعبية.
في سنة 1984 أصدر محسن مهدي هذه المخطوطة القديمة وحديثاً قامت المستعربة الألمانية كلاويا أوت بمناسبة الاحتفال بمرور ثلاثمئة عام على إصدار ترجمة غالاند بالفرنسية، بترجمتها من جديد منقولة عن الأصل العربي وبطريقة مغايرة لغالاند. وهكذا أصبح بوسع الجمهور الغربي معايشة حوادث كتاب «ألف ليلة وليلة» والتعرف على سحر الشرق وهناك من يتوقع إقبالا كبيرا على الترجمة الألمانية التي أعدتها كلاويا أوت، إذ كون العالم العربي ضيف الشرف هذا العام على معرض الكتاب في فرانكفورت فإن صدور الترجمة وانتشارها في المكتبات في هذا الوقت يشجع كثيرا على رواج الكتاب. كما من المنتظر أن يسهم الكتاب في رفع الغشاوة التي ألبست من دون حق على الأدب العربي لتشع من جديد المغامرات الحماسية والمشوقة للملوك والمتسولين والعبيد والعفاريت. ويعترف النقاد الذين اطلعوا على الترجمة الجديدة أن المستعربة كلاويا أوت نجحت بسهولة وسلاسة في نقل تواتر الاستخدامات اللغوية المختلفة من العبارات الفجة لبعض المجادلات إلى المقاطع السجعية المصقولة بإتقان.
شيء واحد يكدر هذه المتعة، ألا وهو الـ 250 قصيدة المتناثرة هنا وهناك وأوت تعتبرها بمثابة اللب في «ألف ليلة وليلة» وظنت أنه ينبغي عليها أن تحاكي أوزانها وقوافيها الموحدة، إلا أن ذلك لم يعط أي إيقاع شعري في اللغة الألمانية، كما أن الوزن جاء ثقيلا ومرهقا.
كل هذا الاهتمام بكتاب «ألف ليلة وليلة» يطرح السؤال الآتي: ما سر هذا الاهتمام؟ وما الذي يحرك أعماق القراء الألمان والأوروبيين؟ المؤكد أن الجيل الشاب مأخوذ بسحر الشرق مثل الجيل الذي يكبره سنا. أحد الشعراء الألمان قال مرة إن كتاب «ألف ليلة وليلة» مثل مصباح سحري يشتعل بين أيدينا. وكما تتداخل الرموز الحية لتلك المصائر وتتحرك وتتحدد من داخل بعضها بعضاً، تنفتح في أعماقنا هوة لحشد من أشكال وخواطر، ومن حنين ورغبة شبقية.
لعل ذلك يعود، في ما وراء القصص المنفصلة كلها، أي تلك الفكرة العبقرية التي تربط الكل بالكل بما يجعل كل قصة تتحول إلى إطار تدور داخله حوادث القصص التي تحتويها، وفي المقام الأول هناك تلك الحبكة الرائعة لتصرف شهرزاد. لم تكن أبدا بهجة السرد أجمل وأعمق وأكثر سحرا مما هي عليه في تلك النواة العتيقة التي تنتمي إلى الشفرة الهندية القديمة لهذا الأثر.
تبدأ الدراما في هذا العمل المشوق المثير بصدمة رجل، إذ يكتشف شهريار وهو أحد الملوك بجزر الهند والصين أن زوجته، لمجرد مغادرته القصر، تسلم نفسها لمضاجعة عبد أسود. تجد المستعربة أن العرب أيضا يغذون مثل غيرهم فانتازيا خيالية أسطورية. وعندما حدث بعدها وهو في طريق ترحاله أن أرغمته زوجة وحبيسة العفريت على مضاجعتها لا لشيء إلا رغبة في إهانة العفريت، طفح الكيل إذاً لدى شهريار وقرر أن يدرج منذ تلك اللحظة على قتل زوجاته بعد قضاء ليلة واحدة معهن. ليلة بعد ليلة ظل متماديا في استعادة ليلة القتل المتكررة التي يتأجج من خلالها ويحتد صراع الجنسين ليبلغ ذروته.
ثم ها هي شهرزاد ابنة وزيره تدخل مسرح الحوادث. كانت تلك المرأة المتعلمة وواسعة الاطلاع قد أعدت خطة: أن تقص الحكايات من أجل إنقاذ حياتها وإنقاذ الملك والعالم. السرد على طريقة مسلسل تلفزيوني، قصة من دون نهاية، تسردها شهرزاد بطريقة جذابة ومثيرة ومشوقة إذ التشويق يمتد حتى ظهور الفجر، ما يجعل المستمع ينتظر بفارغ الصبر سماع الحلقة التالية.
ويتواصل السرد، ويتواصل تأجيل قتل شهرزاد ليلة بعد ليلة على أن أنجبت الراوية الجميلة ولدا للملك وبذلك ضمها زوجة وعفا عنها برفع السيف عن عنقها.
إنها الخطة العلاجية الظاهرية البسيطة، ولكن وراءها تتخفى الحقيقة الأعمق لفن السرد، ذلك أن شهرزاد ومنذ الليلة الأولى راحت تحوم حول صدمة زوجها وتحاصره بقصصها، عن طريق تحويلات سردية في البداية، ثم راحت تقترب شيئا فشيئا من ملامسة النواة الساخنة للألم الذي جعله يغدو مجنونا يعاني من عقدة نفسية خطيرة، إلى أن توصلت للقص عليه قصته الخاصة بصفة مكشوفة بينة.
يرد هذا في حلقة من نسخة سابقة لم تتوافر في المخطوطة التي حصل عليها غالاند: عندها صحا شهريار وانجلت عنه سكرته، وقال: والله إن هذه الحكاية لحكايتي، وهذه القصة قصتي، لقد كنت في حال من الغضب والحنق حتى أعدتني إلى صوابي. ثم استعاد عقله وطهر قلبه وعاد إلى رشده.
بعبارة أخرى فان قصة «ألف ليلة وليلة» بالترجمة الألمانية الجديدة تروي كيف يمكن لامرأة جميلة وشجاعة أن تعالج عن طريق السرد، روحاً مريضة لرجل عنيف. يتراءى هذا حلا عصريا وإن كان من صلب الحكم القديمة. ويقول المحلل النفساني الألماني برونو بيتلهايم في كتابه «فوائد السحر»: كلنا، صغارا أو كبارا، في حاجة إلى قراءة وسماع قصص «ألف ليلة وليلة»
العدد 763 - الخميس 07 أكتوبر 2004م الموافق 22 شعبان 1425هـ