"عين عذاري تسقي البعيد وتخلي القريب". .. بهذا المثل الشعبي تبدأ قصة دنيا التي قضت سني عمرها في الدراسة. تعبت، صبرت، صابرت، تغربت عن الوطن في طلب العلم، وعادت تحمل معها حلمها.
بداية الحلم كانت مع اختيار دنيا ضمن مجموعة المتفوقين في المملكة، والذين بلغ عددهم 60 طالبا من مدارس البحرين الحكومية والمدارس الخاصة، وكل المختارين يتطلعون إلى بعثة ولي العهد القائد العام لقوة دفاع البحرين إلى الجامعات المعروفة على مستوى العالم. ولكن الحظ، أو النصيب حالا دون تحقيق الحلم.
بقيت دنيا جليسة الدار، تفتح نوافذ غرفتها وترنو بعينيها إلى السماء، وتذهب بنظرها بعيدا بحثا عن ضالتها، وبقيت على حالها تندب حظها. ولكن الوالد الذي أخذ على عاتقه تدريس أبنائه وتحمل أعباء قروض المصارف التي أنهكته لكي يدخلهم أفضل الجامعات، أبى إلا أن يحقق حلم دنيا أصغر بناته والتي ضاقت بها "الدنيا" بما رحبت. وأخيرا، عاد الأمل من جديد، فها هي دنيا تجتاز آلاف الأميال نحو جامعة "بوند" في استراليا، وهي إحدى الجامعات المعترف بها، وهناك في أقصى الدنيا، ستروي دنيا حكايتها.
سنوات الغربة
تقول دنيا: - لقد أكملت البكالوريوس والماجستير في تقنية المعلومات في ثلاث سنوات، سنتان للبكالوريوس وسنة للماجستير، وحصلت خلال هذه السنوات على مختلف الدروع والأوسمة التي تمنح إلى المتفوقين من الجامعة".
الأم التي رافقت ابنتها إلى مبنى "الوسط" تقطع الحديث على دنيا: "حتى بحث التخرج الذي قدمته دنيا يطبق في جامعة "بوند" في استراليا حاليا، وهذا أمر نادر إذ هذا لا يحدث إلا للطلبة الذين يقدمون بحثا مميزا يضيف إلى التخصص شيئا جديدا".
وتعود دنيا: "في تلك الجامعة عشت أحلى أيام الدراسة، وحققت ما كنت أتمناه، شاركت في معظم الأنشطة، وعندما أنهيت الدراسة عرض علي المسئولون في الجامعة أن أبقى وأدرس في التخصص نفسه وأكمل مشواري نحو الدكتوراه".
تتنهد دنيا وترفع عينيها وتنظر إلى لا شيء، وتقول:
"ولكن حب الوطن، وبعدي عن أمي وأبي وأهلي هو الذي أرجعني مرة أخرى. كنت أظن أن ضالتي ستكون في بلدي، بين أهلي، بين أصدقائي وأحبتي، وحدا بي الأمل إلى أبعد من ذلك، وحينها قررت أن أعود وأبني حياتي ومستقبلي على التراب الذي عليه نشأت وترعرعت، وعلى الأرض التي كحلت عيني بترابها...".
وفي طريق العودة، سبق نظر دنيا جسدها إلى الوطن، ورسمت في مخيلتها مستقبلا يتناسب مع الشهادة التي رجعت بها، ربما قالت في نفسها انها ستكون من بنات البحرين اللاتي يحتذى بهن في طلب العلم وستخبر صديقاتها بل وحتى غيرهن عن هموم الغربة وكيف استطاعت التغلب عليها، ستقول لهم، كان لها هدف واحد هو ان تحقق ما تريد وهاهي الآن في أرض الوطن.
ولكن... وبعد ان انتهت سنوات الغربة، وعادت دنيا إلى أرض الوطن، لم تكن تعلم ما ينتظرها.
الوالدة تكمل ما تبقى من القصة: "لقد عادت ابنتي بعد سنوات من التعب في الدراسة، وبعد أن أنهت ما ذهبت إليه، وبعد أن أنفقنا على دراستها ما لا يقل عن خمسين ألف دينار".
في هذه الأثناء تطل من عيني الأم دموع خجلى لا تلبث أن تعود، لتعود إلى الحديث مرة أخرى بابتسامة الأم الحزينة: "لا أدري ما أقول، ولكن هل يمكن أن يعود أحد أبناء هذا البلد من الغربة وبعد أن أنهك نفسه في طلب العلم وهدفه خدمة الوطن، لا يجد وظيفة مناسبة له و"الخطأ" الوحيد الذي ارتكبه هو حصوله على شهادة الماجستير، وفي الوقت نفسه يتم استقدام الأجانب وأهل الوطن عاطلون عن العمل يبحثون عن لقمة العيش".
وتأخذ دنيا زمام الحديث: "لقد مضى على رجوعي ستة شهور، وإلى الآن لم أجد الوظيفة المناسبة، او لنقل ان الوظيفة المناسبة لم تجدني كما يقول المسئولون الذين زرناهم وراجعناهم مرارا وتكرارا. والأدهى من ذلك كله والأمر، هو أن الموظفين في وزارة العمل يحتجون بحصولي على شهادة الماجستير لأنها - والقول لهم - لا توجد وظيفة لهذه الشهادة، وفي المرة الأخيرة أخبروني بأنهم سيجدون وظيفة لي إذا ما أردت، ولكن بشهادة البكالوريوس فقط!".
وفي هذه الأثناء، أخرجت دنيا رزمة من شهادات التفوق التي حصلت عليها إبان فترة دراستها في جامعة "بوند"، وأخرجت صورها التي امتلأت بها مجلات الجامعة، وقالت:
"عندما ذهبت للالتحاق بدورات التدريب في وزارة العمل أخذ الموظف يضحك وهو يردد "كيف تدخلين التدريب وأنت تحملين شهادة الماجستير" وهل حصولي على شهادة الماجستير يعد ذنبا؟".
الأم تستدرك هنيئة، وترجع بها الذاكرة إلى عيد العلم الأخير الذي أقيم تحت رعاية سمو رئيس الوزراء: "كانت ابنتي من ضمن المكرمين في عيد العلم الأخير نظرا إلى حصولها على درجة الماجستير بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى من الجامعات الخارجية، وحين صافحها سمو رئيس الوزراء الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة تبادل معها الحديث لفترة، وشرحت له ظروفها، وقال لها هل تعملين الآن؟ فأجابته بأنها عاطلة عن العمل منذ رجوعها من استراليا، ووعدها بأن يكون لها نصيب في التوظيف، وأمر الموظفين بأن يأخذوا اسمها... نحن لا نلوم المسئولين، ويكفي أن سمو رئيس الوزراء أبدى اهتمامه ووجه بتوظيف دنيا على وجه السرعة، ولكننا اتصلنا أخيرا بمكتبه وأخبرنا الموظف بأنه لم يحدث أي تطور!... إننا نستغرب من تهاون الموظفين بتوجيهات المسئولين، ولاسيما توجيهات سمو رئيس الوزراء الذي أخذ على عاتقه رعاية العلم والمتفوقين منذ سنوات طويلة... نحن لا نتمنى أن تكون شهادة عيد العلم مجرد ذكرى عبرت حياة ابنتنا، ورسما معلقا على الحائط نتباكى عليه كلما مررنا به".
من يتبنى دنيا...
دنيا بنت 21 ربيعا تصحو وتتمنى أن يكون ما تواجهه كابوسا عابرا، يزول حالما تفتح عينيها من النوم، ولكن الواقع والحقيقة المرة لهما رأي آخر... ولكن هل هذه نهاية الحكاية التي بدأت من النهاية؟
الأم التي تحملت غياب ابنتها ثلاث سنوات، تسأل: "يا ترى من يتبنى دنيا؟ من يزيح عنها هذا الألم الذي لا يفتأ يحطم طموحها وآمالها؟ ومن يمسح فكرة العودة إلى استراليا من عقلها؟ وخصوصا بعد أن عرض مدرسوها والمسئولون في الجامعة عليها العمل في القسم الذي حصلت فيه على شهادة الماجستير، ولاسيما أنها فقدت الأمل في إيجاد حلمها الضائع على أرض الوطن؟ ونحن نناشد المسئولين في الدولة، وعلى رأسهم جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، ورئيس الوزراء سمو الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة وولي العهد القائد العام لقوة دفاع البحرين سمو الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، أن يعيدوا إلى دنيا التي عرفتها أملها في خدمة وطنها بعيدا عن اليأس والاحباط والروتين".
أما دنيا فتقول: "لماذا نستقدم الأجانب إلى البلد، هل خلت البلد من أبنائها، ولماذا لا تتبنى جامعة البحرين المتفوقين في الدراسة ولاسيما في المجالات الحديثة، ونحن نعلم بأن الجامعة أنشأت في الآونة الأخيرة مجموعة من الأقسام الجديدة ومنها قسم تقنية المعلومات. وهل من الإنصاف أن نعود إلى الغربة في الوقت الذي نجد فيه الوطن في أمس الحاجة إلينا، ونحن في أمس الحاجة إليه".
وتحدثت أم دنيا عن المقابلات التي دخلتها ابنتها مع المسئولين في وزارة التربية والتعليم، وتكلمت عن تأكيدات وزير التربية والتعليم نفسه بضرورة تبني دنيا، وتوظيفها في الوزارة ولاسيما أن تخصصها "تقنية المعلومات" يتوافق مع مشروع جلالة الملك لمدارس المستقبل، وحينها بات تحقق الأمل قريبا وعادت دنيا مرة أخرى إلى التفاؤل وبدأت تخطط وتحلم ولكن:
"بعد عدة مقابلات في وزارة التربية والتعليم، وبعد رزم من الوعود التي راحت تتوالى على دنيا، ها هي جليسة الدار، محطمة يكاد اليأس يتخلل إليها، تبحث عن العمل الذي من المفترض أن يبحث عنها، والأمر المضحك المبكي أن ذنبها هو الحصول على شهادة الماجستير بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى!". ولعل دنيا واحدة من مئات يواجهون المصير نفسه والظروف نفسها، يحملون شهادات عليا، ويحملون آمالا وطموحات كبيرة، يأملون أن يخدموا في وطنهم الأم، يعطونه كما أعطاهم، ويبقى أن يتكفل المسئولون في البلد بتبنيهم فأهل الدار أولى بخيراتها وأولى بخدمتها، ولكن متى يتحقق ذلك أم يبقى حلما ضائعا يبحثون عنه ويبحث عنهم؟
العدد 901 - الثلثاء 22 فبراير 2005م الموافق 13 محرم 1426هـ